الحدود الشرعية، مثل قطع يد السارق وجلد الزانى أو رجمه، وردت فى الكتاب والسنة على أنها أحكام تكليفية عبادية مثل سائر العبادات من الصلاة والصيام. والفرق بينهما هو أن العبادات بالصلاة والصيام عينية الامتثال عند توافر شروط التكليف، فلا يسع المكلف تركها وإلا كان مؤاخذاً عنها ديانة أى بحكم الدين يوم القيامة. أما الحدود الشرعية فهى عبادات تخييرية بمعنى أن الشرع خيّر المكلف فيها بين الستر على نفسه مع إخلاص التوبة ليجعل من نفسه إنساناً صالحاً وبين أن يجود بنفسه إلى جهة القضاء ليطلب تطهير نفسه من إثم ما ارتكبه بإقامة حد الله عليه. وعلى القضاء العادل ألا يفرح بهؤلاء المستبقين بالإبلاغ عن أنفسهم، بل عليه أن يمكنهم من الرجوع إلى خيار الستر والتوبة، فقد أخرج مالك أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله. من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإنه من يُبدى لنا صفحته نُقم عليه كتاب الله». وعندما ارتكب ماعز بن مالك جريمة الزنى فى جارية لهزال بن ذئاب، وكان هزال يأويه يتيماً فاستشاره فقال له هزال: انطلق إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فأتاه فكان ما كان. وقد عاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هزال تلك النصيحة وقال فيما أخرجه مالك بلاغاً: «يا هزال لو سترته بردائك لكان خيراً لك». ومع ذلك فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد تولى إدارة هذا الاعتراف بتذكير المعترف بحقه الشرعى الأول فى الستر على نفسه واختيار التوبة النصوح، ففتح باباً جديداً للمتهم بعد اعترافه أن يبطل اعترافه بإبداء شبهة ليرجع إلى الاختيار المفضل شرعاً وهو الستر على النفس وتمكينها من التوبة، فأخرج البخارى أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال لماعز: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت»، وفى رواية للدارقطنى: «ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه». قال فرجع ثم عاد. فقال له مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له: «أبك جنون؟» فأُخبر أنه ليس بمجنون. فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر. وفى رواية لأبى داود والترمذى أن ماعزاً لما رُجم فوجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد فلاحقه بعض الناس فقتلوه، فذُكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه». وهذا ما استقر عليه الفقه بالإجماع عملاً بما أخرجه البيهقى عن على أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «ادرءوا الحدود بالشبهات». إن احترام تلك الحصانات الشرعية يجعل من الحدود اختيارات تطهيرية ويمنعها أن تكون عقوبات جزائية. وعلى المجتمع المسلم أن يضع ما يشاء من عقوبات إنسانية لا تضاهى الحدود الدينية لضبط أمنه ونظامه فيما يُعرف بقانون العقوبات، ولهم فى هذا القانون عدم الأخذ بنظام التوبة أو بمبدأ الشبهة المسقطين للعقوبة. أما الحدود فستظل بحكم أصل الدين المجمع عليه ساقطة بالستر على النفس أو بإبداء الشبهة فى كل مراحل الجريمة حتى قبيل إنفاذ العقوبة. ترى بعد هذا البيان هل سيرفع المزايدون أيديهم عن الحدود الشرعية؟