دمعت عيون الأديب العالمى نجيب محفوظ منذ سنوات وهو يقولها "وأحلامُ الأطفالِ قطعةُ حلوى.. وهذا طفلٌ يبيع حُلمه".. وقتها شاهد طفل يبيع الحلوى فى إشارة مرور.. هذه التفاصيل الدقيقة فى وجوه تبدلت طفولتها من لحظات مرح وفرحة بلعبة جديدة أو قطعة حلوي، إلى لحظات عمل وشقاء يهدون فرحتها لأطفال تتلاقى عيونهم معهم للحظات قليلة حين يقفون فى جانب المشترى ويرحلون سريعا بابتسامة بريئة.. مرت الأعوام على مقولة محفوظ التى يتبادل الشباب روايتها الآن عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتزايد معها بائعو الأحلام فى شوارع المحروسة.. لكل منهم قصه استبدلت موقعه من جانب الباحث عن الفرحة إلى جانب البائع الحزين. محمد حاول يبيع اللعب عشان يبقى ضابط أتم عامه العاشر وأحلامه تقف أمام أبواب كلية الشرطة والكلية العسكرية.. حزم حقائبه فى قريته الصغيرة بالمنوفية واستقل وسيلة مواصلات متهالكة لينتقل إلى القاهرة فى رحلة البحث عن أموال يكمل بها تعليمه.. فى قلب أحد أزقة حارة اليهود عاش حتى الآن لستة أعوام بين آلاف الألعاب لا يملك منها سوى حق بيعها للأطفال الآخرين بينما يجمع بعض الجنيهات يوميا لتعاونه فى دفع تكاليف دراسته. السيد محمد إبراهيم، صاحب الستة عشر عاما، مازال يمسك بكتب مدرسته الثانوية الصناعية، بينما تلتقط يده الأخرى الألعاب التى يبيعها للأطفال.. بين منزل أجّره له صاحب المحل يجمعه ببعض العاملين الآخرين المغتربين ومحل الألعاب والمدرسة ورحلات زيارة الأهل فى القرية يتلخص شريط حياة الطفل طوال الستة أعوام الماضية والتى كفلت له بيع أحلامه فى الألعاب للأطفال وبيع أحلامه فى اللحاق بشرف العسكرية أو بذلة الضابط، أيضا يقول "الدنيا طلعت أصعب من أحلامى الوردية وقتها دلوقتى يا دوب نفسى أخلص المدرسة على خير". السيد لم يبع حلمه فى الدراسة بسهولة مثلما يقول، ضغط العمل والتعود على بيع الابتسامة التى يفقدها لغيره زادا الأمر صعوبة عليه، ولكنه مازال حتى الآن يتمسك بإكمال دراسته على أمل أن يضمن لنفسه ولأولاده مستقبلا أفضل مما يعيشه الآن. بجانب بائع الألعاب تتراص بعض الجرائد اليومية.. اقتطع ثمنها من أجره الضئيل ليتعرف على أحوال بلاده ويقول "أنا بعشق القراءة.. وببكى على حال البلد كل ما بقرأ الجرايد.. كان عندى أمل كبير إن الثورة تغير كل حاجة بس طمع الناس ضيع أهم فرصة جت لمصر فى المرحلة الأخيرة". عيسى بياع الفشار حلمه فى "باسبور سفر" خلف زجاجة زينها بكلمات الحمد لله، إلى جانب بعض الرسومات الطفولية، يقف عيسى جمعة، صاحب الستة عشر عاما، وبيده مقلاة الفشار مطبوعا عليها علامات أصابعه لأكثر من 9 أعوام هى عمر شرائه لعربة الفشار وقتما كان عمره 7 أعوام ويبدأ خطواته الأولى فى المدرسة الابتدائية. عيسى ترك المدرسة بإرادته فور أن جمع أموال عربة الفشار، تتبدل ملامحه الصغيرة وهو يحكى كيف اختار أن يبيع حلمه لأطفال آخرين ليحافظ على وجوده فى هذه الحياة، لهجته التى اكتسبها من المرور فى الشوارع تكبر سنوات عمره كثيرا وهو يقول "كان لازم أشتغل عشان أجيب فلوس تعيشنى أنا وأهلي، واللى زيى مهما عملوا فى التعليم عمرهم ما هيوصلوا بيه لحاجة". بيع عيسى أحلامه لسنوات غير بعض الشيء من طبيعة أحلامه المستقبلية، حلمه الآن يقف أمام "باسبور سفر" يأخذه ويرحل إلى بلاد تكفل بعض الآدمية للبشر يقولها بصوت واثق "مش عايز أكمل حياتى فى بلد مفيش حاجة بتنفع فيها، أى مكان هاكل فيه عيش أحسن هروح له". حسام بتاع العصير ناوى يجى فى يوم يشترى لابنه ينفرج وجهه دائما بابتسامة بشوشة بينما تمتد أقدامه وأطرافه الصغيرة بصعوبة محاولة الوصول إلى مقبض عصارة البرتقال التى يتنقل بها بين مظاهرات مصر عقب الثورة، يتحدث وفى يده عدد من البرتقالات التى يقوم بعصرها ليقدم لك كوبا منعشا، يضعه بابتسامة فى يد طفل يمسك بعلم على الجانب الآخر وهو يصاحب والده فى نفس التظاهرات. حسام الدين بائع العصير، يبلغ من العمر اثنى عشر عاما، مازال فى مدرسته ولكنه ينهيها يوميا ويحمل كتبه متجها نحو العمل على عربة العصير التى أصبح مكانها الدائم الآن حيث تنشب التظاهرات ويتجمع البشر، وصلته قصة بائع البطاطا الذى خطفت عمره طلقة طائشة فى اعتصام التحرير، وعلى الرغم من هذا يؤكد أنه لا يجد حلا آخر للحياة ومساعدة أهله، سوى بيع أحلامه فى كوب عصير بداخل التظاهرات المتعددة. يجفف يديه المبللة دائما جراء غسل البرتقال والأكواب ليأخذ قسطا صغيرا من الراحة، ويحكى عن حلمه الكبير يقول "نفسى أكون محاسب وبذاكر عشان أقدر أعمل كده". ويتابع حسام "معظم الزبائن بيكونوا أطفال لأنهم أكثر فئة بتحب العصير، لكن أكيد هيجى اليوم اللى هجيب أولادى واشترى ليهم بدل ما يبيعوا".