كانت الطائرة تحلق فوق بقعة خضراء داكنة، لاتستطيع أن تحدد مساحتها لاتساعها، وكأنك هابط لتوك من السماء إلى الأرض، قبل أن تطؤها قدم إنسان، أو تحرقها نيران حروبه .. تلك هي العاصمة الأمريكيةواشنطن ، بنايات لا تكاد ترى ملامحها بوضوح، وسط هذه الأمواج النباتية المتلاطمة، وطرق لضخامتها تراها بوضوح تحمل على عاتقها قطرات من سيارات مبعثرة، لاتتكاتف ولاتتلاقى ولا تتراص إلا على أبواب واشنطن دى سى عاصمة الأمريكيين المملة - هكذا يطلقون عليها . بفندق أنشأوه بين أعناق مطار واشنطن دالاس، كانت وقائع مؤتمر التضامن القبطى، تحت عنوان « مستقبل الأقباط فى ظل الحكم الإسلامى» والذى يبدو أن القائمين عليه عدلوا عنوانه إلى « الأمن القومي الأمريكى والنهوض بحقوق الإنسان والأقليات في مصر» وهو عنوان كما ترون يحمل من الإثارة أكثر مما يحمل من معنى حقيقى . ماعلينا.. المهم أن الجلسة الافتتاحية عقدت بإحدي قاعات الكونجرس الأمريكى، وهو أمر متاح لمنظمات المجتمع المدنى، ومنها بالطبع منظمة التضامن القبطى، التى يترأسها عادل الجندى ويعد قلبها النابض الناشط والكاتب مجدى خليل . المؤتمران السابقان للمؤتمر الثالث الذى عقد أيام 28 و 29 و30 من يونية الماضى، لم يحظيا بنفس الحضور الرسمى الأمريكى الذى حظي به الأخير، حيث حضر السيد مايكل بوزنر مساعد وزير الخارجية الأمريكية لحقوق الإنسان، والسيناتور بلانت، وعضو مجلس النواب فرانك وولف، واللورد التون من مجلس اللوردات البريطانى، وجيم كيريجانوس أقدم عضو فى البرلمان الكندى، والسيدة كاترين لانتوس مفوضة حقوق الإنسان الأمريكية، وعدد كبير من ممثلى الأقليات المسيحية فى الوطن العربى، إضافة إلى عدد من المحللين البارزين على رأسهم الدكتور وليد فارس. فى كلمته الافتتاحية لم يخف عادل الجندى -رئيس المنظمة- مايتعرض له الأقباط بعد مشاركتهم في ثورة الخامس والعشرين من يناير، مؤكدا أن الأقباط تعرضوا لمذابح على أيدي جيشهم - يقصد موقعة ماسبيرو - إضافة إلى تعرض كنائسهم للحرق، خصوصا مع وصول القوى المتطرفة لسدة الحكم، مع الإشارة إلى قضية تهجير عائلات قبطية بحكم عرفى بدائي، ووجه كلماته إلى الإدارة الأمريكية وقوى الغرب: « إن لم يكن لديكم رغبة حقيقية في مساعدة مصر على المضى قدما فى مسارها الديمقراطى فقد يكون من الأفضل أن تتوقفوا عن تقويض تحركنا نحو الديمقراطية». ورغم تباين المواقف داخل المؤتمر، بدءا من محاولات تضخيم الأمور، وتصوير الأمر على أن محرقة بشرية تحدث في مصر كل دقيقة ، مرورا برؤى متعقلة وواقعية، وإلى تحدى القلة بأن مصر خالية تماما من فكرة الاضطهاد إلا أن هذا التباين ألقى بظلاله على صفحات من وجهوا خطابات إلى المؤتمرين . انزعج مايكل بوزنر مساعد وزير الخارجية الأمريكية من محاولة الهجوم المباغت عليّه من قبل بعض الحاضرين، بعد اتهامه وإدارته بدعم الإسلاميين فى مصر، فكان رده حاسما «الإخوان فى الحكم لأن الصناديق جاءت بهم» وفى محاولة تشبه المحاولات الانتخابية فى بلاد العالم الثالث، طمأن الحاضرين بأن إدارته ستظل تحذر من إهمال الأقليات الدينية فى المنطقة كلها . وعندما خرج على النص أحد الحضور، مطالبا بتقسيم مصر، واجه هجمة شرسة من قبل كل الحضور تقريبا، فى الوقت الذى أشادت فيه كاترين لانتوس مفوضة حقوق الإنسان الأمريكية بوثيقة الأزهر، حيث رأت فيها حسب تعبيرها « جوانب ايجابية» وأعلنت أنها لا تزال تطالب الكونجرس بالموافقة علي إرسال مبعوث خاص لشئون العقيدة فى الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا . اللورد الإنجليزى جون التون قال : إنه لا يفهم عجز الغرب وأمريكا عن تفهم خطورة مايحدث فى مصر، وفجأة تقمص الرجل شخصية رجل الدين وقال « إن الأرض التى ولد فيها المسيح، وعاش فيها تخلت عن المسيحية الآن» . أما رئيس الاتحاد المارونى العالمى سامى الخورى، فقد أعلن فجأة.. أنه يتحدث نيابة عن 12 مليون مارونى، يبدو أنهم منحوه توكيلا -مثل توكيل الإخوان في مصر - رفع من صوته علي غرة ليقول: إن 12 مليون مسيحى مهاجر مستعدون لبذل دمائهم من أجل إخوانهم الأقباط !! صديقنا مجدى خليل دينامو منظمة التضامن القبطى أخرج من جعبته كل المخاوف، وطرحها على الحاضرين : الإخوان سيظلمون الدنيا، وسوف يعيثون في الأرض فسادا ، وسوف يضطهدون الأقباط، وكأن الأقباط يمتلكون كل شيء، أو أن مصر بلا شعب يقاوم، ودون أن يلتفت إلى الواقع الجديد فالمصريون الآن لايتركون الأقباط وحدهم فى مظاهراتهم، والمصريون هم الذين أسقطوا مبارك، وليست امريكا والمصريون هم القادرون وحدهم على إحقاق الحق، والوقوف فى وجه كل طاغية .. يبدو أيضا أن مجدى لايعرف أن مصر أكبر من أن يحكمها فصيل وحده، حتي لو كان الإخوان. المهم أن « ابونا فيلوباتير» تصور نفسه فوق منبر، و « هاتك ياهجوم» على أمريكا، لأنها جاءت بالإسلاميين إلي الحكم، ولم يوجه خطابه إلى الشعب المصرى، الذى ثار ضد الظلم، واعتقد الرجل أن امريكا بيدها كل شيء، وتجاهل أن أوباما ظل يتغزل فى حكمة مبارك، حتى آخر نفس، ونسى أن المصريين هم من أسقطوا النظام ،رغما عن أمريكا التى خاطبها أن تنقذ الأقباط . الناشط والمحلل السياسى الكبير الدكتور وليد فارس كان هو زعيم العقل والمنطق فى تفسير مايحدث ومحاولة الخروج من الأزمة الخانقة فى مصر . باختصار كان حضور المؤتمر معتدلين في معظمهم، ولم تخل الوقائع من تشدد مبرر، وآخر غير منطقى، على أن الإجمالى الواقعى يشير إلى أن جمهور المؤتمر كانوا خليطا من وطنيين، ومتشددين وسذج ، وتجار ، غير أنهم جميعا مصريون حتى النخاع!!