النّاس تحسدك دائمًا على شيءٍ لا يستحقّ الحسد؛ لأنّ متاعهم هو سقوط متاعك، حتّى على الغربة يحسدونك، كأنّما التشرّد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقدًا وحقدًا، ربما تجسد هذه الكلمات حال قاطنى الجزر النيلية، بعضنا يحسدهم كلما مرّ عليهم، لأنهم يعيشون بين أحضان النيل الخالد، غير أن لسان حالهم، إن نطق، فسوف ينطق بعبارات لا تخلو من الحسرة والألم، "الورّاق" ليست وحدها، ولكن هناك عشرات الجزر النيلية التي يُقدر عدد قاطنيها بمليونى نسمة، أي ما يزيد على عدد سكان إحدى الدول الخليجية وربما دولتين معًا، الإهمال والتجاهل والفساد.. عناوين بارزة للتعامل الحكومى مع هذا الملف، شأنه شأن ملفات أخرى كثيرة، في الوقت الذي يقول فيه أهل الخبرة والعلم: إن الجزر النيلية يمكن أن تكون رافدا اقتصاديا مُهما، لا يقلُّ دخله عن دخل قناة السويس، هذا الإهمال هو نفسه الذي يجعل حصر تلك الجزر لغزا مُحيرا لأولى الألباب، ففيما يقدرها الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء ب 163 جزيرة، ترى تقارير معهد بحوث النيل أنها لا تتجاوز ال128 جزيرة فقط، ولكن الهيئة العامة للمساحة تقول إنها تصل إلى 181 جزيرة، أما معهد بحوث الأراضى والمياه فقدرها ب 209 جزر، أما وزارة الموارد المائية فاكتفت ب 197 جزيرة فقط، هذا التضارب، الذي ربما يكون مقصودا، يعود لقرار أصدره رئيس مجلس الوزراء رقم 1969 لعام 1998، حدد بمقتضاه عدد الجزر ب 144 جزيرة، وحدد أسماءها وموقعها الجغرافى، بهدف التعمية على استيلاء بعض رجال الأعمال على جزر نيلية صغيرة، دون وجه حق "البياضية نموذجا"، ما دفع بعض الخبراء والمختصين إلى الوصول بالرقم الحقيقى إلى 300 جزيرة. وبحسب السجلات الرسمية، فإن عدد الجزر النيلية 144 جزيرة، تبلغ مساحتها نحو 37150 فدانا، أي ما يعادل 160 كيلو مترا من أجود الأراضى الزراعية وأخصبها، منها 95 جزيرة تقع في المنطقة ما بين أسوانجنوبا إلى القناطر شمالا بمساحة تقدر بنحو 32500 فدان، في حين يوجد 19 جزيرة في طول فرع دمياط تبلغ مساحتها 1250 فدانا، أما فرع رشيد فيوجد به 30 جزيرة تبلغ مساحتها3400 فدان، خبراء البيئة والأراضى والمياه يرون أن الجزر النيلية تتنوع ما بين "بيئية" في الشمال تتجمع فيها الطيور المهاجرة، و"زراعية" في جنوب الدلتا وشمال الوادى من أجود الأراضى الزراعية، وأخرى "سياحية" في الأقصروأسوان، وفيما توصف جزيرة "الوراق"، التي شهدت الأسبوع الماضى، أحداثا مؤسفة، بأنها "الأفقر"، فإن جزيرة "الزمالك" تُصنف بأنها «الأغنى»، ورغم كثرة الجزر النيلية وتنوعها، فإنه لا توجد جهة محددة مسئولة عنها، بل إن دماءها تتفرق بين 5 جهات، وبعضها يتعرض للغرق والاختفاء، وبعضها يغوص في برك من الصرف الصحى ولا يوجد بها مدارس أو مستشفيات، كما أن هناك 131 جزيرة معزولة تماما عن البر ولا يربطها بالشاطئ أي رابط، ويضطر مليون إنسان على الأقل، إلى استخدام الزوارق والقوارب للعبور إلى الشاطئ الآخر. وتسبب الإهمال الحكومي في تحول بعض هذه الجزر إلى أوكار للمخدرات والبلطجة ومصادر للهجرة غير الشرعية واقتصر الاهتمام الحكومى على 9 جزر فقط في 6 محافظات ويطالب المختصون بضرورة الاهتمام بالجزر النيلية باعتبارها مشروعا قوميا مهما، من خلال تنفيذ 10 مطالب هي: إنشاء شبكة صرف صحى لكل جزيرة، ومحطة تحلية تتناسب مع عدد السكان، وتخصيص محطة وسيطة لتجميع القمامة والتخلص الآمن منها، وتطبيق نظم الزراعة العضوية والمكافحة الحيواني، وإنشاء مخطط عمرانى صديق للبيئة الخاصة بكل جزيرة، وربط قاعدة البيانات الوطنية عن جزر النيل بمثيلتها في دول حوض نهر النيل، وتوفيق أوضاع المنشآت الملوثة للبيئة على هذه الجزر، وجمع وتدوير المخلفات الزراعية والعمل على تنفيذ قانون البيئة لعام 1994، وأخيرا إلزام المنشآت الخاصة بالأنشطة والواقعة على نهر النيل بدراسة الأثر البيئي، هذه الجزر يمكن أن تكون مواقع تجارية على طول نهر النيل، ويمكن إقامة موانئ صغيرة للتجارة الداخلية، بالإضافة إلى استغلالها كمحميات طبيعية تتنوع فيها الحيوانات كمصادر مهمة لتوفير البروتين الحيواني، بالإضافة إلى النباتات الطبيعية.. عن الجزر النيلية، وما تغوص فيه من إهمال جسيم، وسبل الاستفادة منها، بدلا من اتباع سياسة "هدم المعبد"، وأحوال قاطنيها الذين يشعرون بالغربة في وطنهم وتغييب لغة الحوار الهادئ للتعاطى مع الأزمات.. تدور صفحات هذا الملف.