ترك لنا أحد حكام المقاطعات ممن عاشوا في القرن 72قبل الميلاد أيضا بيانا عن حياته الصالحة إذ يقول: «لقد أعطيت خبزا لكل الجائعين وكسوت كل من كان عرياناً.. وملأت الشواطئ بالماشية الكبيرة، وأراضيها المنخفضة بالماشية الصغيرة، وأشبعت كل ذئاب الجبل وطيور السماء بلحوم الحيوان الصغير.. ولم أظلم أحداً قط.. وإني لم أنطق كذباً لأني كنت محبوبا.. محسنا لأهل ضيعتي».. وحفظت لنا البرديات الفرعونية العديد من الحكم والتعاليم التي كتبها حكماء هذا العصر، ومن بين أقدم هذه الحكم تأتي حكم «بتاح حتب» وهي تعتبر من أقدم النصوص في العالم والتي تعبر عن السلوك المستقيم، خاصة وأنها وصلت إلينا كاملة بعكس الحكم الأخري التي وصل لنا منها أجزاء بسيطة، وتحكي لنا بردية «بتاح حتب» إنه كان وزيرا في عهد الاتحاد الثاني قبل القرن 82 قبل الميلاد، وعندما تقدم الوزير في السن وشعر بدنو الأجل طلب إلي الملك أن يعلم ابنه ليخلفه في منصبه والقيام بأعباء الواجبات الحكومية، ووافق الملك علي رأي وزيره لتصل إلينا هذه التعاليم لتعبر لنا بوضوح عن الوازع الأخلاقي الذي كانت تقوم عليه أركان الحكم المصرية القديمة، وتضم هذه الحكم ثلاثة واربعين فقرة تحتوي علي العديد من التعاليم التي تختص بأخلاق الإنسان وسلوكه، ولعل أبرز ما جاء بها وتكرر باستمرار خلال هذا الحكم يؤكد علي نبذ الكذب، وأن الصدق هو أساس العدالة التي اتخذت في هذا العصر اسم «ماعت» والتي اشتملت علي ثلاثة معاني قامت عليها أركان الحياة في فجر التاريخ المصري القديم هي: «الحق» و«العدل» و«الصدق» وبعد سنة 0003 قبل الميلاد بدأ عظماء رجال الدولة القديمة يجدون في معاني كلمة «ماعت» ما يعبر عن التجارب القومية مع احتفاظها بدلالتها علي صفات الإنسام الخلقية، أي حولت النظام الخلقي الشخصي إلي نظام قومي ساد البلاد في هذا الوقت، وكان الحكيم «بتاح حتب» يفخر بسيادة «ماعت» وخلودها فيقول: «إن ماعت عظيمة وتصرفها باق فلم تخذل منذ زمن بارئها». فإذا انتقلنا بالزمان إلي ما بعد ذلك سنجد كتاب الموتي يحمل لنا تفاصيل عن الحياة الآخرة والحساب وعذاب الروح أو نعيمها تبعا لأعمال الرجل أو المرأة في حياته الدنيا، وجاء في كتاب الموتي ثلاث روايات كاملة وصلتنا في أفضل حال. وفي الرواية الأولي عنوان «فصل في دخول قاعة الصدق» لاحظ اسم القاعة ودلالته، وهذا الفصل يحتوي علي ما يقوله المتوفي عند الوصول إلي القاعة وهو يوجه نظره إلي وجه الإله: سلام عليك أيها الإله العظيم رب الصدق، لقد أتيت إليك ياإلهي وجيء بي إلي هنا حتي أري جمالك. إنني أعرف اسمك، وأعرف أسماء الاثنين والاربعين إلها الذين معك في قاعة الصدق، وهم الذين يعيشون علي الخاطئين ويلتهمون دماءهم في ذلك اليوم الذي تمتحن فيه الأخلاق أمام «أوزير».. وبعد هذه المقدمة يبدأ المتوفي في تبرئة نفسه من الآثام والذنوب فيقول: إني لم ارتكب القتل ولم أمر بالقتل أني لم ارتكب الزنا أني لم أنطق كذبا أني لم أضع الكذب مكان الصدق ولم أكن أتصام عن كلمات الصدق هكذا اقترن الكذب بالقتل والزنا والغش وخلاف ذلك من الكبائر كما سطرتها أقلام المصري القديم، أرأيت كيف يكون الكذب وأهمية أن تبرأ منه كما جاءت نصوص كتاب الموتي الذي يعود للقرن 53 قبل الميلاد، وهو ما يؤكد أن المصري القديم كان يتحوط في الكذب ويعده من أعظم الكبائر، ويقرنه بالقتل والزنا. وإذا تقدمنا أكثر عبر الزمان، ووصلنا إلي تل العمارنة حيث عاصمة مملكة أخناتون التي اطلق عليها مقر الصدق «ماعت»، كما جاء في أناشيده التي كان يتغني بها، وقد كان أتباعه علي علم تام باعتقاده القوي في «ماعت».. ولذلك كان رجال البلاط الملكي يعظمون «الصدق» كثيراً، إذ يقول أحد أعلام أعوان الملك، وهو «آي» الذي قام بخلع الملك «توت عنخ آمون» فيما بعد عن عرشه: إنه «يعني الملك أخناتون» أهل الصدق في جسمي وإن الذي أمقته هو الكذب وإني أعلم أن «وان رع» (يعني أخناتون) بجرح فيه (يعني الصدق). وعلي جدران مقبرة لأحد الموظفين الذين عملوا مع أخناتون في تل العمارنة نقرأ ما يلي: سأتكلم لجلالته لأني أعلم أنه يعيش فيه الصدق وأني لا أفعل ما يكرهه جلالته لأن الذي أمقته هو حلول الكذب في جسمي انك «رع» والد الصدق وأني لم أخذ رشوة للكذب كما إني لم أقص الصدق لأجل الرجل العسوف وهذا يدلنا علي استمرار فضيلة الصدق حتي عصر التوحيد الذي نادي به اخناتون، وجعل الصدق هو شعار المرحلة. المراجع: فجر الضمير - هنري بريستد ترجمة: د. سليم حسن