مفعماً بوجدٍ عُدتُ من عاصمة الألمان برلين، بعد ما جرى معى هناك، مما سأتلو عليكم منه ذِكْراً.. ذلك أننى فى ساعة ظهيرةٍ لا صخب فيها، كنتُ أسيرُ وحيداً على حافة الشوارع العريضة البرّاقة المحفوفة بالاخضرار، فهتف بى، من حيث لا أرى، صوتٌ يقول صاحبه: ما دمتَ قد اقتربتَ ولا شاغل لكَ، فالمتحفُ المصرىُّ مفتوحٌ، فادخله لترى البهاء المحيط برأس الملكة المصرية نفرتيتى، وربما تجود فتبادرك بحديثٍ مخصوصٍ، لأن مثلك يثير فيها الحنين، ويحدو بها إلى البوح.. سألتُ: وما الذى أتى بها إلى هنا؟ أجابنى رجلٌ أشعث، كان يجلس على دكَّةٍ من تلك المبثوثة بين ظلال الأشجار، بنبرةٍ خالطةٍ بين التوقير والتحقير تقول ما ترجمته إنها هنا أسيرةٌ ومبجَّلة، ولو بقيت فى بلادكم لصارت حُرَّةً ومهانةً كبقية الناس والآثار! رأيته لا يضبط الكلام، فاستدركتُ عليه مُصحِّحاً بأن الأسير لا يُبجَّل ولا يُهان الأحرار، وليس فيما قاله جوابٌ عما سألتُ. فاحتسى الرجلُ شربةً من الزجاجة التى يمسك بعُنقها، ثم قال بكلماتٍ فاحشةِ الوضوح والصراحة: قبل عشرات السنين، وجدها رجلٌ ألمانىٌّ مدفونةً تحت رمال العاصمة المصرية المندثرة المسماة اليوم «تلّ العمارنة»، فخبَّأها عن العيون وأخذها إلى هنا، كيلا يكسِّرها كاسرٌ أو فاجرٌ من أحفاد عُمران المتَّقين، تقرُّباً لمعبود العمارنة وأبناء عمومتهم من العبادلة والعوادلة والجواهلة والسوافلة، وهم فى دياركم اليوم كثيرون.. قلتُ: كذبتَ وافتريتَ، فما كان ليدِ هؤلاء فى تخريب الآثار نصيبٌ كهذا الذى اقترفه سابقوهم، وها هو رأسٌ آخر للملكة لايَزَال تمثاله محفوظاً فى المتحف بديارنا القاهرية، ولم تمسسه بالسوء أيدينا، فنحن الحافظون المعتبرون بالآثار الباقية عن القرون الخالية.. اشتطَّ الرجلُ وكسر على الأرض الزجاجة، التى كان يسكر منها فى وضح النهار، وانهار فوق انهياره بعدما قال ما معناه: الأوهامُ تحوطكم لفقدانكم الذاكرة فى موطن الغرائب وبلد العجائب، حيث المعكوسُ غالب. أَنسيتَ كيف انتُهب متحفكم وأُلقيتْ فى النيل آثاره لصرف الأنظار عن تاجر الآثار الذى ثار عليه الأحرار؟ أم غفلتَ عما يعيثُ اليوم بدياركم التى فيها الرئيسُ خسيسٌ، والخسيسُ حبيسٌ، والحبيسُ نفيسٌ، والنفيسُ الحرُّ رخيصٌ، دمه على الأرصفة نازفٌ فائرٌ، والشاطرُ يغامرُ من بعده شاطرٌ؟ والتمثال الذى بين أيديكم ليس ملوَّناً كالذى هنا، وأنتم قومٌ تكرهون الألوان. فاحمد لنا أننا نزعنا عنكم التمثال، لنحفظه من الزوال، وإذا كنتم من الراشدين لما نهبكم كُلُّ الأقربين والأبعدين. ابتعدتُ عن السكران وفى حلقى غُصةٌ، وصَمَمتُ أسماعى عن مجاهرته بالسوء، وساءنى ما قال، حتى كدتُ أفارق الموضع خالىَ الوفاض، والقلبُ فيه ما فيه، لولا أن الحال انقلب بى إلى الضِّدِّ، فتركتُ الجذبَ والشَّدّ حين مررت ببوابة المتحف، فأشرقت فى سمائى ابتسامةُ شقراءَ تقف قُرب الباب وترنو مشجِّعةً إياى على الدخول وواعدةً بأمورٍ من بعد ذلك قد تكون.. عيناها سماءٌ قد صفت، ووجهها صبحٌ يُنير، ومن مناجم الذهب البرَّاق شعرها المنساب فوق القوام القويم.. اقتربتُ بخطوِ متردِّدٍ، فاتَّسعتْ منها ابتسامةٌ كشفت اللؤلؤ المخبوء فى قعور البحور، فأكَّدت أن العلوَّ والقاع قد يقتربان. بلسان مسحورٍ سألتها عن رسم الدخول، فقالت بالمصرية الفصيحة القديمة: ما عليك من ذاك، فلا مقابل لزيارة الأحفاد للجدّات، بل لهم ثوابُ صلةِ الأرحام، ولولا أن الملكة أرادت لقاءك، لما قادتك إلى هنا خُطاك.. درتُ بين بردياتٍ ومومياوات ومقدَّسات، حتى دار رأسى بين جنبات المتحف القائم منه طابقان، وفى الطابق الأرضى على يمين الداخل توجد غُرفة الأسرار، التى ولجتُ إليها وقد انصرف الزوَّار وآلَ النهارُ إلى خط الزوال، وأمام تمثال الملكة وقفتُ متأملاً اقترانَ الجمالِ بالجلال. لا شىء بالغرفة إلا التمثال، ولا جامع هنا للخيال التواق إلى معرفة السر الكامن خلف المظاهر والأشكال، التى هى عينُ الإشكال: كيف انتهى الحالُ بالملكة بعد رفعة الشأن إلى سوء المآل؟ حدَّقتُ طويلاً فى العنق الذى يشرئبُّ ليشرب منه الظمآنُ، ولحاظ العينين المكحَّلتين بلون الليل الملىء بالأسرار، والتاج الذى لا يليق إلا بهذا الرأس الدقيق السامى، وبالوجه المنسابة من ملامحه الرقةُ الحانية، حول الشفتين الحمراوين.. بقيتُ على حال التحديق وقتاً لا ميقات له، حتى إذا انتصف الليل وسطعت بالحجرة أنوار العقل الفعال، فأذهلتنى الأسرارُ عن ظاهر الصورة وأخذتنى اللوامعُ من صورة الحجر إلى جوهر الخبر، فسألتُ الملكة عن سرِّ الالتباس وعن أخبارها الغابرة، فباحتْ من بعد طول سكون وأفاضت بلسان الحال الراوى، فكان مما قالت: نشأتُ فى البيت الملكى ب«طيبة» ذات التسعين باباً، المسماة اليوم «الأقصر»، وكنتُ كلَّما سألت فى الصغر عن معنى اسمى «الجميلة جاءت»، المنطوق باللسان القديم: نفرتيتى، تُجيبنى الملكة العظيمة «تى» بابتسامةٍ تزيد الحيرة. ومن حولى كانوا يقولون إن وصف «الجميلة» واجبٌ لى، وأما الإضافة إليه ففيها أقوال: فالجميلة أتت، أو جاءت، أو وصلت! لأننى وفدتُ من ديارٍ بعيدةٍ، لا عودة لى إليها، أو لأن ملامحى قُدَّت من البهاء النوبى الأسمر، أو لأننى ابنةُ آلهةٍ علوية ظهرت بصورةٍ بشرية، أو لأننى جئتُ إلى قلب المليك فعمرته بالتحنان والحب من بعد الخواء.. أقوالٌ متفرِّقة لم يُجمع أحدٌ عليها، ولم يؤكَّد منها واحدٌ، فكان الشاهدُ أن غموض الأصل زادنى سحراً، وشغل بى وريثُ العرش عما كان أبوه «آمين حتب الثالث» الذى اغترَّ بما هو فيه، فطمح مثل كل الملوك إلى التأليه. فلما باح بذلك لزوجته «تى» نصحته بالاقتران بواحد من آلهة الثالوث أو التاسوع المؤلَّه، لكنه طمح إلى المستحيل وأراد أن يكون الصورة البشرية ل«آمون».. قال الكهنة للملك إن آمون هو الخالق المحتجب العالى ولا يمكن أن يتجلَّى بتمامه فى مخلوق، فكان معهم غير خلوق وتهدَّدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، وأمرهم فحملوه على محفة «آمون» وساروا به بين أروقة الكرنك، كأنه هو ربُّ الأرباب «آمون». احتارت الملكة «تى» فى مراد زوجها المستحيل، وغرقت فى اغترابه عن بنى الإنسان، لكنها صبرت عليه حتى عبر إلى الجانب الآخر وخرج إلى النهار، وأدركت اضطراب الكهنة وعموم أهل البلاد بعد رحيل زوجها، فسارعت إلى تنصيب ابنها الذى كان اسمه «آمون حتب الرابع»، ليكون له من مُلك والده نصيب، وزوَّجتنى له لعله يرتاح للحنو ويحتمل نوبات الصداع الدافع إلى الترقى للألوهية، وأجلستنا بجوارها ليصير المجمع الملكى ثالوثاً تتآلف فيه الملكة الأم وابنها الملك الصغير وأنا الزوجة الملكية. كان ذلك سنة ستين وثلاثمائة وألف قبل الميلاد الذى صرتم على أساسه تحسبون السنين. لكن زوجى زاد به الخبلُ، ولم يهدهده تحنانى ولا مرح أطفالنا من حوله، وفى الحول الثانى من سنوات مُلكه أمر بتأليه أمه ليتم اغترابها ويمهد لغُربتى، ثم تألَّه هو على نحوٍ جديد وكفر كل الديانات وأراد أن يطوى عبادة الإله الأعلى، رب العالمين «آمين» فحاول الكهنةُ ترويض جموحه، وأفهموه أن فى اختلاف الأديان رحمةً بالمتدينين، وأن الإله الأعلى المحتجب المسمى «آمون أو إمن أو آمين»، يمتنع تجلِّيه التامُّ فى غيره (سبحانه) ومهما تعدَّدت أسماؤه فحقيقته واحدة منذ الأزل إلى الأبد، وهو يطل علينا عبر قرص الشمس «رع» ليحمل الرحمة إلى العالمين من عباده المتقين وغيرهم ممن يُلحدون... وهمس إليه كبيرُ الكهنة بأن البلاد فى خطر لأن فيها المطمع، ومصر مهدَّدة بالانقسام والتشرذم إذا استدام الخلافُ وتأخَّرت شمسُ آمون عن المطلع.. فما سمع لهم، بل أساء بهم ظنه وأهانهم فى حضرته وهجر الأقصر وهى طيبة الطيبة، وبنى فى الصحراء عاصمة جديدة دعا فيها لإلهه «آتون» وجعلنى كاهنته العظمى، ثم جعل من ذاته بعد حينٍ الإله. ودهم بالدواهى كهنة آمون، وأسقط كل الآلهة وتعالى فوق «ماعت» ودعا الجميع لعبادة الرب الذى خلقه، وكان من قبله مطموراً بل ظل منسياً دهوراً.. همستُ إليه بلسان الأمومة، بعد رحيل أمه «تى» عن عالم الكون والفساد وخروجها إلى النهار، راجيةً أن يترك الناس أحراراً فيما يعبدون، فلا يجوز الإكراه فى الدين. فصاح: قد تبيَّن الرشد الآتونى من الغىِّ التعدُّدى، ولن يُعبد بعد اليوم فى الأرض إلا «آتون» الذى هو على الحقيقة أنا «إخناتون» وليس لى رجوعٌ عن هذا الأمر الذى انحسم، ولا بأس لو تآكلت حدود مصر من أجل إعلاء الدين الواحد الجديد.. وقلتُ: يا زوجى الحبيب، اهدأ، واعرفْ أن للناس سُبلاً فى العبادة لا تُعدّ، فلا تحوطنا بأسوار الهجر والصدِّ، وكن «إخناتون» ولكن دع العُبَّاد يتَّقون ما به يؤمنون، فمن شاء اتِّباعك فليؤمن بإلهك الذى هو أنت، ومن شاء فليكفر، فلست عليهم بوكيل. قال: بل هو الإله الواحد المعبود، ولا إله غيره فى الأرض ولا فى السماء. امتلأت الديار رُعباً، وانهار النظام، ولا مرام لإخناتون المتأله المسكين إلا إرساء عبادة الإله الجديد، وما هو أصلاً بجديد.. ولم يردع الطامعون فى البلاد رادعٌ، وانتشر الفسادُ فى الأرض وليس له من دافعٍ أو مانع.. فتركتُ حينذاك هذه الحياة المتقلِّبة الغريبة، وودَّعت أطفالى وزوجى المحصور فى بلدته الجديدة «أخيتاتون» التى خُرِّبت عقب رحيله أو ترحيله عن هذه الحياة، وأُخذت أحجارها الكبار لتكون جدران معبدٍ جديدٍ أقامه وريثه «توت عنخ آمون» الذى كما يدل على ذلك اسمه، عاد لعبادة آمون، لعله يُرضى الكهنة والعباد ويحفظ من الانهيار البلاد، فما استطاع .. وتشوَّهت صورتنا وكل التماثيل، وفى عموم البلاد جرى التدميرُ وتدهورتِ الأحوالُ مع صراع الأديان الذى به دوماً تتدهور الأحوال، فلم يبق للبلاد مخرج إلا بأن يتنحَّى عن الحياة «توت عنخ آمون» ابن «إخناتون» من زوجته الأخرى، فكان رحيله عن هذه الحياة أو ترحيله، وهو بعدُ صغير. بعدما عهد بالأمر إلى مجلس العسكر الذين قادهم «حور محب» فأعاد حين أراد الأمن بربوع البلاد، وهدأتْ أرجاءُ طيبة وبقية الأنحاء، وما عادت المظاهرات تخرج إلى الميادين.. ولأن العسكريين لا يرثهم إلا العسكريون، فقد تولى حكم مصر من بعد حور محب، زميله العسكرى «رعمسيس» الذى تنطقونه رمسيس، وهو الذى كان متقدماً فى السن فلم يجلس على العرش إلا لعامين، ثم أورث الحكم من بعده لابنه «سيتى» الذى أورثه لابنه «رعمسيس الثانى» فظل جالساً على العرش سبعةً وستين عاماً.