هل أنت الآن كائن.. أم كنت.. أم ستكون؟ أنت في الكينونة، تعيش في الحيز المكاني والزماني، وقبل الزمن والمكان لم يك شيئا، حتى الفراغ لم يكن، ثم خلق الله المكان، وخلق الزمن، وأعطى لكل ناموسًا، يخضع الزمن لناموسه ويخضع المكان لناموسه، ولكن خالق الزمن لا يحتويه مكان، هو فوق، ولكن فوقيته فوقية مكانة لا مكان، خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، مرَّت الستة أيام على المخلوق لا على الخالق، إنما أمره بين الكاف والنون، ولأن المخلوق خاضع لناموس خالقه، فقد مر على السماوات والأرض ستة أيام إلى أن تشكلتا، ولكن هذه الأيام لم تمر على من شكلهما وخلق ناموسهما، فهو فوق الزمكانية. أوجد رب القدرة صلة بين الزمن والمكان، جمعهما في إناء الزمكان «وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون» فكان الليل والنهار زمنا، وكانت الشمس والقمر مكانا، فإذا سبحت الشمس «المكان» ذات المكان والحيز، في مداها المكاني، وسبح القمر «المكان» صاحب المكان والحيز، في فلكه المكاني، جرى على إثرهما الليل والنهار، فيتعاقب الزمن لناموسه، ولكن خالق الناموس لا يخضع لما خلقه، خالق الزمن لا يمر عليه زمن، وخالق المكان لا يحتويه مكان، ثم تنتظم حركة الزمن بقانون الخلق «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون» فإذا خرجنا من نطاق مكانية الشمس والقمر، لن يمر علينا ليلهما ونهارهما، ينحسر عنا زمنهما، وإذا دخلنا إلى مكانية أخرى، مر علينا زمن هذه المكانية، وخضعنا لناموسهما، ففي الكون أبعاد زمنية ومكانية غير بعدنا الزمكاني. أوليس الله قال لنا هذا «تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور».. ثم قال سبحانه «ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين» وفي سورة الجن قال «وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا». قال لنا الله إنه خلق السماوات والأرض طباقا، وطباقا تعني متداخلات، حتى أن هذا التداخل لا يترك لك مجالا لاكتشاف الفروق بين الطبق والآخر الذي انطبق عليه، لم يقل لنا إنه خلقها طبقات، أو متطابقات، فالطبقات جمع طبقة والطبقة تعلوها طبقة ولا تتداخل فيها، فيكون بين الطبقة والطبقة تفاوت، والمتطابقات أي المتشابهات والمتساويات، وما لهذا قصد، وما لذلك خلق، ولكنه خلقهن طباقا، إذ لا يوجد بينهن فروج أو تفاوت، لذلك قال ربكم تأكيدا لهذا «فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير» والفطور هو الفارق بين الطبق وما انطبق عليه، إنك لن تجد فارقا أبدا، ولو كان هناك فارقا لكانوا طبقات ولك أن تتأمل ما قاله الله تعالى «يا معشر الجن والإنس أن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان». فالنفاذ هو الاختراق، والاختراق هو خروج الشيء من شِق إلى آخر، والأقطار هي الجوانب، والسلطان هنا هو قدرة الله التي يعطيها من يشاء من عباده، ولك أن تقرأ سورة الرحمن كلها، فإذا قرأتها بروحك فإنها ستقودك إلى حقائق يعجز عنها العقل، ستقرأ عن شواظ من نار ونحاس تمنع النفاذ والاختراق، وستقرأ عن السماء التي حين تنشق لينفذ منها من أراد الله له أن ينفذ سيكون هذا الانشقاق في شكل ولون الوردة الحمراء «وردة كالدهان» ورغم أن المفسرين قالوا إن السماء ستصبح وردة كالدهان أي شديدة الحمرة يوم القيامة فإن قولهم هذا لا يتفق مع سياق الآيات التي تدل على أن الله يتحدى خلقه في الحياة الدنيا وليس في يوم القيامة، فليس في القيامة تحدٍ ولكن التصدي، إنما التحدي يكون في حياة التكليف لا في حياة الحساب، ووردة كالدهان هذه هي الشكل الذي ستكون عليه السماء التي ستنشق وتنفرج لينفذ منها الإنسان، والمعنى هنا أنها ستكون منشقة على شكل وردة حمراء، وستكون مدهونة بشيء كالدهن أو الزيت يساعد على الانزلاق والنفاذ، ولك أن تعلم أن النفاذ لا يكون إلا من مكان لمكان آخر، وطالما نفذ إلى مكان آخر فإنه سينفذ إليه ليجد نواميس أخرى للزمن، فلكل مكان حركته الخاصة به التي يتولد عنها زمنها. أما الجن الذين جعل الله سبحانه من النجوم رجوما لهم، فقد كانوا يجوسون بين السماوات المنطبقات فيخترقونهن طبقا عن طبق، وحين يخترقون يتسمعون لأحداث وأخبار أزمنة لم تأت بعد «وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع» فأوقف الله هذا التسمع بأن وضع حرسا وشهبا وجعلهما رجوما للشياطين التي تريد الاختراق، فإن تعدت على خاصية خلقها وانطلقت، احترقت، وفنيت قبل أن تصل لمبتغاها، ولكن الله سبحانه أعطى لمن يشاء من خلقه علما، يركب به طبقا عن طبق، وينتقل زمنا عن زمن، وأقسم الله على ذلك بقوله «فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق» أي ستخترقون هذه الطباق، وتنتقلون من طبق لطبق آخر يخضع لنواميس أخرى، وقد أقسم الله هنا على ذلك بدلائل المكان والزمان، الشفق، والليل، والقمر. وهذا الاختراق ليس محض نظرية يتلهى بها الناس، أو يذكرها علماء الطبيعة والكيمياء والرياضيات دون براهين، إذ أن الله سبحانه أعطانا تلك البراهين وقال لنا عنها، أخبرنا سبحانه أن هناك من اخترق حاجز الزمان والمكان، فقد اخترقهما أنبياء وأولياء ومن أعطاهم الله علما من الكتاب، وفي العموم نجد أن كل نبي من الأنبياء اخترق سننا كونية، بإذن الله ومشيئته وعلمه الذي بث قدرا منه فيهم، إبراهيم عليه السلام اخترق خاصية النار المُحرقة فكانت بردا وسلاما عليه، وإسماعيل اخترق خاصية الذبح، وعيسى اخترق خاصية الموت والحياة فأحيا الله به الموتى، وأجرى الله على يديه الشفاء للمرضى، ثم رفعه الله إليه ليبقى متخطيا زمنا لا نعرفه في مكان نجهله، وانظر للسنن الكونية التي اخترقها موسى، ولكن كل هذا الاختراقات لم تكن بقوة ذاتية للأنبياء ولكن بقوة الآمر سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء كن فيكون. أما سنن المكان والزمان فقد اخترقهما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأمر الله، وحادث الإسراء والمعراج شاهد على اختراقه حجب الزمان والمكان، جيء له بالبراق، ونحن لا نعرف عن هذا البراق إلا أن اسمه مستمد من البرق، ويقولون إن اسمه جاء من البريق ومن شدة ضوئه، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب دابة من الضوء، حملته بقواعدها وليس بقواعدنا، بسنتها وليس بسنتنا، بناموسها وليس بناموسنا، وذهبت به إلى القدس حيث صلى بالأنبياء، ثم عُرج به إلى السماوات، ولا نعرف كيف عرج به لكننا نعرف العروج، فيقال عرَّج الثوب أي خططه خطوطا ملتوية، والعروج هو السير أو الصعود في خطوط ملتوية متعرجة «تَعْرُج الْمَلَائِكَة وَالرُّوح إِلَيْهِ فِي يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة» عروج الملائكة والروح هو الصعود بالتواء، والزمن الذي استغرقوه كان خمسين ألف سنة وفقا لناموس العروج، وهذا يدل على اختلاف الأزمنة. وقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم كل مشاهد الإسراء والمعراج، واستغرق زمنا لا نعلم مقداره، وعاد إلى بيته قبل أن يبرد فراشه، وكانت الليلة شاتية باردة، فأنكرت قريش وقالت وفقا لعلمها: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة.. فماذا لو علموا أنه عاد بمقدار أن يتجرع أحدهم شربة ماء؟! كانت سُنة الزمن وقانونه الذي دلف إليه غير سُنة زمننا وقانونه، وسُنة المكان غير سُنة مكاننا، لذلك ذهب وعرج ونزل وعاد دون أن يمر عليه الزمن الخاص بنا، ولكن مر به الزمن الخاص بالطبق الذي دخل إليه «لتركبن طبقا عن طبق».