أعياني السؤال، من أين تخرج الحكمة في مصر؟ ومن أجل الإجابة على هذا السؤال بهدلتني المرمطة في الشوارع والأزقة، في القرى والنجوع، أصابني الشبع بالتخمة وكدت أن أموت من الجوع، حتى استقر بي المقام, بعد عمر عريض, في درب المهابيل، ويح قلبي من ذلك الدرب العتيق. أخذ درب المهابيل مكانه منذ مئات الأعوام في قلب القاهرة، في الموسكي، وفي هذا الدرب استقرت إقامتي واختلطت بالناس، ومن خلال رحلتي أدركت أن الإنسان يبدأ رحلة المعرفة بقراءة الكتب، ثم يرتقي فيقرأ الناس، ثم يرتقي فيقرأ الحياة، ثم يرتقي فيقرأ الموت، وهنا في درب المهابيل قرأت الحكمة في وجوه الناس، حكمة المصريين هي ناتج عصير الزمن، والعصير هنا يتكون من كوكتيل أو مزيج من المعابد والكنائس والمساجد، الصوامع والحانات، الشوارع والحارات، الظلم مر من بلادنا وكل حاكم به احتفى، والعدل لاح في سمائنا ثم اختفى، أما الذوق فلم يخرج من عندنا. ومن يوم أن عرفتُ الحكمة قررتُ أن أجلس في حانة درب المهابيل، أشرب البوظة المصرية العتيقة، وأعب من الجعة المعصورة عصرا من الشعير، ورغم أن بوظة حارتنا لا تسكر، والجعة في حانتنا لم يقترب منها الكحول، إلا أنني بالرغم من ذلك كنت أسكر طينة من بعد عاشر قدح، حتى أنني ذهبت لشيخ حارتنا الشيخ الحناوي، وهو من أهل السلف، وقلت له يا شيخ حناوي: ما بال الخمر التي ليس فيها ما يسكر، ولم تتخمر، ومع ذلك فهي تسكرني، فهل هي حرام؟ فقال لي: ليس كل ما يسكر حراما، فالحب لا يسكر إلا المحبين، والشوق لا يسكر إلا المشتاقين، فما لا يسكر الناس وأسكرك فالله قد أباحه لك . ومن يومها أخذت مكاني في حانة حارتنا، وحين أخرج منها أجلس بجوار السبيل، أغسل وجهي بالماء لعلي قد أفيق، وبعد أن أغسل وجهي أرى أشياء يعجز الناس عن رؤيتها فأرويها لهم، فيضحكون ويقولون سَكَرَ أبو يكح الجوسقي من بوظة لا تُسْكِر، وجعة لم تتخمر، وحين أيأس منهم أذهب لرب العزة وحدي، أصلي الفجر وحدي في المسجد، ولا أقف في صلاة الجماعة، فجماعتنا صار ثوابها أقل من ثواب صلاة الفرد.. أبو يكح الجوسقي صار فردا بين الناس، ويسع الفرد ما لا يسع الجماعة، ومن هنا إلى أن يشاء الله ستسمعون حكاياتي وستقرأون ها، لذلك سأشرب وأسكر وأحكي لكم ثم سأذهب لأصلي الفرض وأنا فرد.