«اشرب بوظة.. اشرب وروّق دماغك».. نداء قوى تسمعه على بعد أمتار كثيرة من رجل يرتدى جلبابا أبيض، يجوب الشوارع والحوارى والأزقة وتتسرب من «الجركن» الذى يحمله رائحة نفاذة.. إنه آخر بياع بوظة فى مصر. البوظة هى مشروب الفتوات وقت أن كانت مصر تعيش تحت راية التوت والنبوت، لكن عم حسين الصعيدى، الرجل القادم من سوهاج ليتجول بشوارع القاهرة القديمة، كان له رأى آخر: «البوظة دى مشروب صحى وبتوع زمان بيفهموا أحسن مننا». تختلف بوظة عم حسين عن تلك البوظة التى قرأنا عنها فى روايات نجيب محفوظ: «لأ أنا البوظة بتاعتى غير بتاعة الأفلام»، لا يقصد المكونات، فكلتاهما لها ذات التفاصيل: «القمح والشعير والسكر» لكن ما يقصده عم حسين هو «درجة التخمر»؛ فهذا هو الفارق الوحيد بينهما وما يجعل إحداها حراما والأخرى حلالا. «البوظة حرام.. ما تبيعهاش تانى».. صوت جهورى يأتيه من خلفه. يلتفت فيجد شابا ثلاثينيا احتلت لحيته الكثة مساحة كبيرة من وجهه. وقف خلفه وفاجأه بتلك الكلمات وعاد مرة أخرى وكرر: «يا حاج انت راجل كبير خلى آخرتك نضيفة». ضحك عم حسين ضحكة طويلة وهو يرد: «يا ولدى دوق كده لو سكرت أبطل أبيعها.. ولو ما سكرتش توعدنى ما تفتيش فى حاجة ما تعرفهاش تانى؟». «الناس بتفتكرها خمرة، لكن قبل الثورة ما حدش كان بيعترض، دلوقتى ناقص يضربونى».. قالها عم حسين الصعيدى وهو يعلن أنه لا يخشى أصحاب اللحى الذين يستوقفونه كل فترة لكى يمنعوه عن عمله الوحيد الذى يعرفه منذ خمسين عاما، لكنه يخشى الزمن: «ما بقتش قادر أمشى بالجراكن طول اليوم وخايف ييجى يوم أقعد غصب عنى». «جركنين بوظة بحمولة 10 لتر وأبريق لغسل الكوبين الوحيدين معه».. تلك هى العدة التى يحملها عم حسين يوميا طيلة أشهر الصيف، فالصيف فقط هو موسم الرزق، أما فى الشتاء فيعود إلى بلدته: «سوهاج أولى بىَّ».