وصفه «يحيى حقى»،بأنه «الكاهن الأكبر فى معبد الحب»، يراه المُتيمون به «مناضلا من أجل الحب والحرية»،كما يرونه «صانع الحب»..إنه «إحسان عبد القدوس»،الذى لم تنطفئ جذوات الحب فى قصصه ورواياته بعدُ،رغم وفاته قبل 22 عاما. تحوّل الحب في حياته وكتاباته إلي قضية ورسالة، تطمح لتحرير روح الإنسان من دون أن تخجل من جسده، حيث يبدو الإنسان في رواياته كائنا، لا تنفصل فيه «صوفية الروح» عن «غرائز الجسد»، وعلي كل طرف منهما أن يسمو بالطرف الآخر..ذهبتُ إليه أحاوره وأتحدث معه،دونما أن أكون منبهرا به أو أسيرا له.. وجدتُه معتكفا على كتابة رواية جديدة، فقلت له:هل الرواية الجديدة عن الحب أيضا؟فنظر إلىّ مليا،ثم أجاب بلهجة حاسمة:طبعا..لا،فقاطعتُه:لماذا؟ وقبل أن يجيب، قاطعتُه ثانية:لعلك تخشى الإخوان والسلفيين،فأجاب:ربما.. تلك بداية لم تكن مرتبة من جانبى،بل صنعتها الظروف،التى تمنح نفسها أحيانا حق التصرف عنى بالإنابة،رغم أننى عاتبتها كثيرا على ذلك،وطلبت منها ألا تفعل ذلك،إلا أن حماقتها تعميها عن الطريق الذى أتوهم أنه صحيح. ومادامت البداية هكذا،تلوتُ على «عبد القدوس»،نقدا،قرأتُه على موقع «الإخوان المسلمين» عنه،وفيه:»المرأةُ في نظرِ «إحسان عبد القدوس» عبدةٌ لغريزتها الجنسية التي تُسيرُها وَفق ما تشاء لا كابح يكبَحُها، ولا ضابطَ يضبطُها، فَتُسلِّمُ نفسَها لكل الرجالِ، وَتجمعُ بين أكثرِ من رجلٍ في آنٍ واحد، عرَّى جسَدها، وجعلَه حقاً مباحاً لكلِّ الرِّجال، لا قيمةَ البتة في نظره لعذريتها وشرفها، لقد جرَّدها من زوجيتها وأمومتها وبنوتها وأخوتها، كما جرَّدها من شرفِها وملابسِها، دعاها إلى الحريةِ الوجوديةِ المطلقة، وجعلها تتحررُ من كل القيم والتعاليم السماوية، بل سد أمامها كلَّ أبوابِ الفضائل، وفتح لها كلَّ أبوابِ الخطايا والرذائل، وجعل المجتمعَ مسئولاً عن خطاياها، دعاها إلى التمردِ على كلِّ القيمِ والفضائل باسم الحريةِ والمساواة ومتعةِ الحياة ولذتها». بدا «إحسان عبد القدوس» هادئا،ولم يثر أو يغضب من هذه الكلمات الجارحة،بل فاجأنى،عندما قال لى :أكمل..فأكملتُ:» كما حلَّل «إحسان عبد القدوس» المحرمات: الخمرَ والمخدراتِ والسفورَ والتبرجَ والاختلاطَ ومراقصةَ المرأةِ للرجل وتعريها أمامه، وحلَّل القبلاتِ والخلواتِ ، ودعا إلى زواجِ المتعة، وهاجم وعارض بشدة تعاليم الإسلام التي تدعو المرأة إلى الفضيلة والاحتشام، وهاجم المجتمعات التي تلتزم بحجاب المرأة وتمنع الاختلاط، والنساءُ في نظره كلهن سواء، لا فرق بين متدينةٍ متحجبة، وبين سافرةٍ متبرجة، أستاذةٍ جامعية وخادمة، وامرأةٍ مومس ساقطة، راقصة أو معلمة، فتاةٍ عذراء أو زوجة، أرملةٍ أو مطلقة أُمّاً أو ابنة، بل نجده أساء كثيراً إلى الأرامل والمطلقات، واتهمهن أنَّهن أكثر النساء يرتكبن الفواحش. فالنِّساءُ عنده جميعاً يسيطر عليهن «حيوان الجنس»، بل المتحجباتُ المتديناتُ في قصصِه أكثر نهماً، ويُسلِّمنَ أنفُسَهنَّ لأي كان لأنهن كما يدعي يعانين الكبت والحرمان». حينئذ..تبسم «إحسان»،ثم سرعان ما تحولت الابتسامة الصامتة،إلى قهقهة زاعقة،عقّب بعدها قائلا: : «لست الكاتب المصري الوحيد الذي كتب عن الجنس، فهناك إبراهيم المازني في قصة «ثلاثة رجال وامرأة» وتوفيق الحكيم في قصة «الرباط المقدس»، وكلاهما كتب عن الجنس أوضح مما كتبت ولكن ثورة الناس عليهما جعلتهما يتراجعان، ولكنني لم أضعف مثلهما عندما هوجمت فقد تحملت سخط الناس عليّ لإيماني بمسئوليتي ككاتب،كما ان نجيب محفوظ أيضاً عالج الجنس بصراحة عني، ولكن معظم مواضيع قصصه تدور في مجتمع غير قارئ، أي المجتمع الشعبي القديم أو الحديث، الذي لا يقرأ أو لا يكتب، أو هي مواضيع تاريخية، لذلك فالقارئ يحس كأنه يتفرج على ناس من عالم آخر غير عالمه ولا يحس أن القصة تمسه أو تعالج الواقع الذي يعيش فيه، لذلك لا ينتقد ولا يثور.. أما أنا فقد كنت واضحاً وصريحاً وجريئاً فكتبتُ عن الجنس حين أحسستُ أن عندي ما أكتبه عنه، سواء عند الطبقة المتوسطة أو الطبقات الشعبية ،دون أن أسعى لمجاملة طبقة على حساب طبقة أخرى». وقبل أن ألتقط منه طرف الحديث،استطرد «إحسان» قائلا:أنت تقول إن هذا الكلام منشور على موقع الإخوان،إذن فلا ضير،لأن الشاعر يقول:إذا أتتنى مذمتى من ناقص فتلك الشهادة لى بأنى كامل،ثم صمت «إحسان عبد القدوس» قليلا،ثم تساءل ساخرا: ألا يذكر الذين يسبوننى،أننى كتبتُ،فى عام 1924، وكان عمرى 24 عاما، مقالا،عنوانه «هذا الرجل يجب أن يرحل»، طالبت فيه بخروج المندوب السامي للاستعمار البريطاني اللورد «كيلرن» من مصر، وفي عام 1945 حذرتُ من بذور النكبة التي حدثت بعد ذلك بسنوات، وكتبت مقالا عنوانه: «يا عرب تضيع الآن فلسطين»، وعندما حلت النكبة في عام 1948 بدأت حملة جريئة من خلال عدة مقالات كشفت فيها ما عرف بعد ذلك باسم «فضيحة الأسلحة الفاسدة»، وكدت أن أدفع حياتى ثمنا لها. زدتُ على كلام «إحسان عبد القدوس»، بأن ذكّرته بمقاله «الجمعية السرية التى تحكم مصر»،وكان ذلك بعد ثورة يوليو 1952،ما أدى إلى اعتقاله، فقال: حسنا..ويبدو أن مصر منذ ثورة يوليو،حُكم عليها بأن تحكمها جمعيات سرية،سواء بعد ثورة يوليو،أو بعد ثورة يناير، قلتُ:تقصد جماعة الإخوان المسلمين؟ فأجاب واثقا:بالتأكيد! قلت:دعنا نرتد إلى الوراء كثيرا،وتحديدا إلى سنينك الأولى، وأيام الطفولة،لتحدثنا عن التناقض الذى عشته،فى كنف جدك الأزهرى،المحافظ على التقاليد،وبين والدتك،التى كانت توصف فى هذا الوقت بأنها «سيدة مجتمع،منفتحة على الجميع،وتفتح بيتها لعقد الندوات والصالونات؟ أجابنى «إحسان»:»لا شك أن الانتقال بين هذين المكانين المتناقضين كان يصيبني في البداية بما يشبه الدوار الذهني حتى اعتدت عليه بالتدريج واستطعت أن أعد نفسي لتقبله كأمر واقع في حياتي لا مفر منه». قلتُ:أعلم أنك تخرجت فى كلية الحقوق عام 1942، فلماذا لم تعمل بالمحاماة؟ حينئذ ضحك مضيفى بملء شدقيه،ثم قال:»كنتُ محامياً فاشلاً، لا أجيد المناقشة والحوار، وكنت أداري فشلي في المحكمة إما بالصراخ والمشاجرة مع القضاة، وإما بالمزاح والنكات، وهو أمر أفقدني تعاطف القضاة، بحيث ودعت أحلامي في أن أكون محامياً لامعا». قلتُ:سيدى،يعلم الله أننى لستُ إخوانيا ولا سلفيا،ولكن دعنى أسألك فى هدوء، ألا ترى فى كتاباتك وأعمالك خروجا عن المألوف وهدما للتقاليد،وخرقا للثوابت؟ أجاب «إحسان»:لماذا انقلبت هكذا مرة واحدة،لقد تخيلتك شخصا متحررا،وليس أسيرا لقيم التخلف والرجعية؟ تمالكت أعصابى،ثم قلت:كثيرون يرون فى أعمالك الدعوة إلى ارتكاب الفواحش، وإشاعة الفوضى الجنسية، والتعدي على كل القيم والأخلاق، وإباحة ما حرمته جميع الديانات السماوية؟ ردّ «إحسان» ساخرا:كيف؟ فقلتُ:الأمثلةَ كثيرةٌ ،ولا أعتقد أنك تنكر أنك صوَّرت الفتاةَ ،تعرفُ أنَّ القبلةَ حرامٌ، ولكنَّها لا تعرفُ لماذا، لتوهم القارئ أنَّ تحريمَ القبلةِ نوعٌ من التقاليد، كما صوَّرت المحافظةَ على الشَّرفِ نوعاً من التقاليد، لا علاقة لتحريمِ الأديانِ السماوية لها، حفاظاً على الأعراضِ التي شُرِّعَ القتالُ في سبيل الحفاظِ عليها، بل ألغيت الأديان السماوية؛ ففي قصة «فوق الحلال والحرام» أبحت مراقصة المرأة للرجال، وشبّهت الرقص بالصلاة، وأبحت لبس المرأة للمايوه أمام الرجال، وجعلته أساساً مبيحاً للعري مدَّعياً أنَّ أمَّنا حواء خُلقت عارية.. فى هذه اللحظة..أراد «إحسان» أن يستوقفنى، فقلت:عفوا،ألم تقل على لسان هانئ فى «الحلال والحرام»:»إنَّ أي شيء مخبأ أو مغطى هو أكثر إثارة للإغراء من أي شيء مكشوف.. أحست كأنَّ سيدنا آدم يعتبرها مألوفاً سهلاً رخيصاً لا تحمل في كيانها أي ما تضن به على عينيه.. فبدأت بوحي من الله تغطي نواحي من جسدها حتى تثير في آدم غريزة اكتشاف كل ما لا تصل إليه عيناه. أي غريزة ضعفه أمام المجهول.. الضعف الذي يدفعه إلى التعلق بهذا المجهول واحترامه، بل عبادته إلى أن يصل إلى اكتشافه ليتخلص من ضعفه أمامه. قال «إحسان»: وماذا فى ذلك؟قلت:هذا القول يدل على جهلك بما جاء في القرآن الكريم بهذا الصدد الذي يتحدث باسمه؛ فالقرآن الكريم بيَّن عكس ما ذكرته بأنَّه جعل العري عقوبة لكلٍّ من سيدنا آدم عليه السلام وأمنا حواء لما عصيا أمر ربهما، وأنَّهما قبل حدوث المعصية منها لم يكونا عاريين، وأنهما لما عصيا أمر ربهما عاقبهما بالعري، وأخذا يخصفان على نفسيهما من ورق الشجر ليداريا ما بدا من سوءاتهما، أي أنَّ العري كان عقوبة لهما، يوضح هذا قوله تعالى : «فَقُلْنَا يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ، إنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ،فَوَسْوَسَ إلَيْهِ الشَّيْطَانُ ،قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ، فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى».