شعرت بفرحة كبيرة عندما رأيت الرجل الفاضل والمناضل العمالى الصلب منصف المرزوقى يلقى خطابه الأول كرئيس لتونس أمام الجمعية التأسيسية منتصف الأسبوع الماضى، ليؤكد بصدق أن بلده الطيب قد شهدت ثورة حقيقية. وبكيت مع المرزوقى عندما دمعت عيناه، واختنقت كلماته، بينما هو يتذكر أرواح شهداء ثورة تونس الأبرار، ويقر ويعترف أنه لولا تضحياتهم لما كان وقف فى مكانه ليلقى خطابه كأول رئيس لبلاده، بعد الإطاحة بالنظام الديكتاتورى للرئيس المخلوع زين العابدين بن على. وبالطبع تملكتنى مشاعر الغيرة والحزن فى نفس الوقت عند مقارنة مسار الثورة فى تونس بما يجرى لدينا فى مصر. ففى تونس يتولى الرئاسة شخص كان يعرفه العالم كمعارض شرس لنظام الديكتاتور بن على وزوجته ليلى الطرابلسى التى ظنت أنها كانت تمتلك تونس مع أشقائها وأقاربها فى نموذج فج للفساد. المناضل المرزوقى قضى معظم حياته فى المنفى، كما كانت حال الكثير من المعارضين التوانسة الشرفاء، ولكنه كان دائما الأعلى صوتا، وكان وصوله إلى سدة الرئاسة أقرب للخيال قبل عام واحد فقط. وفى مصر كان لدينا كذلك رئيس ديكتاتور أطال وشاخ فى منصبه، وظن أيضا أن مصر عزبته، يمتلكها هو وزوجته وأبناؤه، بل أراد توريث الحكم لابنه، رغم أن الصفة الأولى لبلدنا هى أنها «جمهورية». وفى مصر دفع شبابنا ثمنا غاليا من أرواحه ودمائه، ولا يزال، ليس لأنه كان يريد فقط التخلص من المخلوع وطغيانه هو وزوجته وأبناؤه، ولكن لتغيير النظام بأكمله بكل ما يترتب على ذلك من توابع. ولكن فقط فى مصر قامت ما سماه العالم بثورة دون أن يتولى شؤونها بعد ذلك أى من الثوار أو المناضلين الشرفاء الذين صمدوا لعقود طويلة، ورفضوا كل الإغراءات الكثيرة فى عهد المخلوع مبارك، الذى كان يتفنن وأجهزته فى احتواء المعارضين، لكى يصبحوا فى النهاية، وكما كان يردد دائما «جزء من النظام». نعم قمنا فى مصر بثورة، واقترب عدد الشهداء من الألف مواطن، ليتولى شؤوننا بعد ذلك وزير دفاع الرئيس المخلوع، الذى كان شديد القرب والولاء له على مدى أكثر من عشرين عاما، ومعه تقريبا كل أعضاء المجلس العسكرى الكرام. وبدلا من أن يقر ويعترف حكام مصر الجدد، كما المناضل التونسى منصف المرزوقى، أنهم ما كانوا ليصلوا لما هم فيه الآن من دون تضحيات شهداء مصر الأبطال، فلقد رأينا استمرارا فى قتل المناضلين من الشباب، سواء فى ماسبيرو أو فى محمد محمود، بل وتخوين وسباب واتهامات بأن هؤلاء الثوار فى الميدان لا يمثلون الشعب المصرى. لماذا لم يقولوا هذا الكلام المؤلم عندما انطلقت الموجة الأولى من الثورة فى 25 يناير؟ وحتى بعد الإطاحة بالمخلوع، تمسك العسكر برئيس الوزراء الذى عينه المخلوع وتطلب الأمر مظاهرات واحتجاجات عديدة حتى وافق المشير على تغيير الفريق أحمد شفيق. وتطلب الأمر احتجاجات وشهداء ومعتقلين تمت محاكمتهم عسكريا حتى وافق المشير على إحالة مبارك ونجليه للمحاكمة. وبعد أن وافق على مضض على تعيين رئيس وزراء تم حسابه على الثورة غالبا لإنقاذ ماء الوجه، تم سلب كل الصلاحيات من يد عصام شرف، وليبقى فى منصبه ضيف شرف ليكون اسما على مسمى. وعندما تم دهس المتظاهرين الأقباط بالمدرعات أمام ماسبيرو، سمعنا أصواتا تتردد بنفس صدى صوت المخلوع مبارك لتنفى أى مسؤولية لقيادة الجيش عن ذلك، رغم أن الساحة لم يكن بها سوى جنود ومتظاهرين وتليفزيون رسمى يحض «المواطنين الشرفاء» أن يهبوا للدفاع عن جيشهم، وليضع البلد على شفا حرب طائفية حقيقية لم ننج منها سوى برحمة من الله وبعد تدخل العقلاء لتهدئة الموقف. وعندما تفجرت الاحتجاجات وانطلقت الموجة الثانية من الثورة بعد تراجع العسكر عن وعودهم بتسليم السلطة وانتخاب رئيس للبلاد خلال عام، تفتق ذهن جهابذة المجلس العسكرى عن اختيار السيد كمال الجنزورى، ليرأس ما سموه بحكومة إنقاذ وطنى، وليوجهوا بذلك صفعة قوية على الوجه والقفا لكل من كان يعتقد أنه قد حدث فى مصر ثورة. الثورة التى كانوا يسمونها بثورة الشباب وال«فيسبوك» أسفرت عن اختيار رئيس وزراء يقترب من الثمانين عاما، وارتبط اسمه وتاريخه بنظام المخلوع بكل ما كان فيه من فساد وبيروقراطية وقمع للحريات، وليطلبوا مننا بعد ذلك أن نتعاطف معه لمجرد أنه قد خرج من دائرة المقربين من المخلوع من دون الحصول على وظيفة أو وسام. رجل أتوا به من أعماق الذاكرة المريرة ليرأس وزارة مصر، بينما مصر تزخر بالملايين من الشباب الواعد المتقد الذى أبعده النظام السابق متعمدا عن إدارة شؤون البلاد. فأى ثورة هى إذن؟ ولماذا كل هذا الضحك على الذقون؟ المقارنة بتونس تجعل المرء يشعر بالمرارة على عدة أصعدة، بما فى ذلك الانفتاح الذى يميز عقول إسلاميى تونس، مقارنة بتحجر عقول غالبية قيادات الإسلاميين فى مصر، ويكفى أنه لا يوجد فى تونس من هو فى عقلية عبد المنعم الشحات. ولكن الأسوأ هو أن يقع فى مصر تغيير كبير يعتقد البعض أنه ثورة، ولكن ليتولى أمورها بعد ذلك نفس رموز النظام القديم، ولتترسخ قناعة أن ما جرى فى بلدنا كان مجرد انقلاب. مصر لديها الكثير من النماذج القريبة من المناضل الشريف المنصف المرزوقى، ولكن العسكر لا يريدون لبلدنا أن تكتمل فيها أول ثورة شعبية فى تاريخها الحديث.