طويت ما كتبت.. وكالعادة كانت الكلمات تتخبط فى متاهة المشهد العبثى الذى نعيشه والتصريحات المتناقضة والتهديدات التى يعيش تحتها المصريون ثمنا لفشل سياسات الحكم وللمسارات الخاطئة التى انتهت بصراع وتبادل اتهامات وتخوين بين التيارات السياسية.. ومحاولة المجلس العسكرى الاستقواء بمجلس مدنى استشارى أذكّر أنه كان من أول مطالب الثورة مجلس رئاسى مدنى يدخل فى تشكيله أعضاء من المجلس العسكرى، ولكن الأخير تجاهل واستعلى وانفرد وإن كان للحق لم يتوقف عن التشاور مع مختلف القوى والتيارات السياسية والوطنية دون جدوى، ولم يكن صحيحا أنه وقف فى البدايات على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية. وكان الحصاد ما وصلنا إليه، فقرر أن يتعلق «بصدادة» اسمها المجلس الاستشارى تصد عنه نتائج ما صنعه بقراراته، وأخطرها تقسيم الأمة وصراع قواها واشتعال الفتن الطائفية ومزيد من مذابح قتل الثوار وإصابة آلاف الشباب وترك المصريين عشرة أشهر تحت سطوة الفوضى المخططة وميليشيات البلطجة، مما يثبت أن المخطط كان مع سبق الإصرار، أنه خلال أيام معدودة بدت السيطرة على هذه الميليشيات ممكنة وكان ذروة الفشل فى إدارة الاقتصاد، واضطر مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية اللواء محمود نصر فى ندوة عقدت الأسبوع الماضى إلى إعلان أن الاقتصاد المصرى مهدد بتواصل انخفاض الاحتياطى النقدى الأجنبى -فى شهر نوفمبر فقط تراجع مليارى دولار- فى يناير يتوقع أن يصل إلى 15 مليارا وهو مبلغ -كما أعلن- لا يكفى لاحتياجات البلاد من الواردات سوى ثلاثة أشهر. أكتب هذه السطور بعد أن ودعت مصر شهيدا جديدا من أعز أبنائها شهيدها ال45 فى مذبحة نوفمبر -أحمد صالح- سبقه بأيام الشهيد 44 أحمد بدوى. الشهداء والمصابون يجدفون فى بحور الدم ويقتلون بالرصاص الحى منذ يناير وفبراير 2011 ولم يعلن أو يعاقب قاتل واحد حتى الآن، ووزير داخلية مذبحة نوفمبر 2011 يعلن أنه لم يستخدم خرطوشا ولا رصاصا!! وبعد عشرة أشهر، أحد أعضاء المجلس العسكرى يعلن أن ميدان التحرير لا يعبر عن كل المصريين، ومثله أعلن اللواء الملا أن نتانئح الانتخابات أيضا لا تعبر عنهم. وسط جميع محاولات إطفاء نور الثورة المصرية تأتى شهادة من تونس وبداية جنى ثمار المسارات التى طالبت بها الثورة المصرية منذ البدايات، وهم يحتفلون بالمنصف المرزوقى رئيسا للبلاد خلال استكمال إجراءات المرحلة الانتقالية. المنصف المحسوب على تيار اليسار المعارض أولى الأيدى التى تمتد بالتهنئة عقب إعلان الفوز تبدو لى من التيار الإسلامى، توافقوا على معادلة وطنية من جميع القوى والتيارات السياسية بمختلف توجهاتها، تبدو روح الشابى تحلق فى سماء البرلمان تردد معهم: «إذا الشعب يوما أراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر»، وقد أراد المصريون الحياة الكريمة والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ودفعوا لها الدم، فلماذا صح المسار هناك ومضى هادئا ليتوج برئيس جمهورية يدير البلاد خلال الفترة الانتقالية وليرى أبناء تونس أول رئيس منتخب بعد ستة عقود انتظارا؟ ولماذا وصلنا إلى هذا المشهد العبثى والدامى فى مصر؟ هل لأنهم لم يسلموا الثورة إلى قيادة عسكرية وسارعوا إلى مجلس تأسيسى مدنى وساروا والتزموا المسارات التى طالبت بها الثورة المصرية وتخاذلت عن التمسك بها؟ أذكّر بأنه يوم عقدت فى تونس أولى جلسات المجلس التأسيسى وكانت 21 نوفمبر الماضى، كان شهداؤنا الجدد يضرجون بالدماء ويضربون بالرصاص الحى وقنابل الغاز المحرَّمة دوليا بأوامر القيادات العليا التى تحكم البلاد إلا إذا كان هناك قيادات أخرى تصدر أوامر الهجوم على ميدان التحرير وضرب وقتل الثورة والثوار! ما زلنا بانتظار إعلان اسم المسؤول صاحب القرار بالهجوم على مصابى الثورة منذ يناير وفبراير ،والذين ما زالوا يستجدون حقوق الرعاية والعلاج. حسن رابح من مصابى 28 يناير فقدتْ عينه اليمنى البصر وكوّن مع مجموعة من المصابين ائتلافا للمطالبة بحقوقهم فى الرعاية وذهبوا إلى مجلس الوزراء، لا إجابة، ذهبوا إلى لجنة صندوق رعاية مصابى الثورة، فقال لهم واحد من اللواءات المسؤولين عن الصندوق «اذهبوا وخدوا حقكم من ميدان التحرير» فلم يجدوا إلا السمع والطاعة والاعتصام فى ميدان التحرير، يؤكد حسن أن عددهم لم يكن يتجاوز خمسين أو ستين مصابا، اثنان منهم أصيبوا فى بداية الثورة بشلل رباعى، أقام لهم زملاؤهم خيمة صغيرة يحتمون داخلها وخيمة صغيرة ثانية، يضعون فيها الأغطية التى يحتمون بها من برد الشتاء والليل. هؤلاء هم من تعرضوا للهجوم التتارى من قوات الأمن فسارع الشباب لنجدتهم فازداد الهجوم شراسة وأطلق الرصاص وقنابل الغاز المحرمة دوليا أو التى تعتبرها أمريكا التى تصدرها لنا من أسلحة الحروب، وما زال القتل مستمرا، ما لم تعلن أسماء المسؤولين عن مذابح نوفمبر وماسبيرو وميدان العباسية ويناير وفبراير. لم تتعرض الثورة فى تونس لمحاولات تفكيك والتفاف وإجهاد وإجهاض. لم تتعرض لمخططات ترضى منظمة واحتفاليات قتل ودم. لم يظهر هناك البعد الثالث الخفى الذى ينسب إليه إطلاق الرصاص ويسمح له بالاختفاء والظهور حسب مقتضيات الإبادة والتطهير والترويع والترهيب! لم تحتفظ الثورة التونسية بمن صنعوا مأساة الأمس وقتلوا وسرقوا ونهبوا وحكموا المصريين بأشرس منظومة أمنية لم تحتفظ بهم وتحم رموزهم وقياداتهم فى سجون، يعلم الله ما يحدث داخلها! وحجم ما ينفق عليهم وعلى نزلاء المركز الطبى العالمى من أموال شعب يواجه أزمة اقتصادية بهذه الخطورة، ويعيش أكثر من نصف أبنائه تحت أقسى خطوط الفقر والمرض والتخلف، لم يتحمل الشعب التونسى نفقات محاكمات هزلية، لم يسمح بتمزيق صفوف الشعب وتقسيمه على ميادين يهتف بعضها ضد بعض وتهتف للنظام القديم، لم يستطع أحد أن يقوم بكشف عذرية على فتاة تونسية. لا أظن أنه سُمح لإعلام رجال الأعمال أن يطلق التشكيك والتخوين على الثورة والثوار. لم يتم الاستعانة بالماضى لتشكيل وزارات، أغلب وزرائها من النظام الذى أسقطته الثورة. يتقدم صورة وصدارة المشهد السياسى فى تونس قيادات قادمة من صفوف المعارضة، ومن بلاد المنفى، حيث واصلوا المقاومة ولم يكونوا جزءا من ديكور نظام زين العابدين ومحلل لفساده واستبداده. التناغم بين حزب النهضة الإسلامى والحزبين اليساريين «المؤتمر من أجل الجمهورية» و«التكتل الديمقراطى من أجل العمل والحريات» يقدم نموذجا لإعلاء مصالح «الوطن» فوق كل اعتبار وتوزيع الحقائب الحكومية، يحاول أن يكون تمثيلا لجميع الأطياف والتيارات السياسية. أين هذا من مشهد الاستقطاب والصراع الطائفى والدينى فى مصر؟ عندما سبقت الثورة التونسية ثورة مصر بأشهر معدودة قال المصريون إن المسافة بين ما حدث فى تونس وما يحدث فى مصر فى الأغلب لا يتجاوز شهرا واحدا.. تماما كما لن يتجاوز أن تصحح مصر مسار ثورتها وتلتزم جميع المجالس والقوى إرادة ثورة 25 يناير بالامتثال والاحترام لجميع ما يستعيد ويوفر عوامل إنقاذها، وإما بثورة جديدة تسترد زمام القيادة وتسقط جميع الخارجين على قوانينها، ومن ركبوا موجاتها ولم يلتزموا الأمانة!