من أكثر الأوجه السلبية التى ميزت الجولة الأولى من الانتخابات هو اعتماد قطاع واسع من المرشحين، وتحديدا الإسلاميين سواء من الإخوان أو السلفيين، على الدعاية الطائفية. ورغم ادعاء تقوى الله، فلم يمانع هؤلاء المرشحون من الذهاب إلى حد اتهام كل منافسيهم على قائمة «الكتلة المصرية» و«الثورة مستمرة» بأنهم يحظون بدعم الكنيسة، أو أنهم هم أنفسهم مسيحيون، حتى لو كانت أسماؤهم مصطفى ومحمد. ولكن هذه سياسة «اللى تكسبّه العبّه»، كما يقول المثل المصرى الشهير، وبغض النظر عن عباءة الدين أو أى توجه سياسى آخر. ومن المعروف أنه مع تصاعد المد الإسلامى منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى، ونمو الخطاب الطائفى، بداية بصدور فتاوى حرمت السلام على الأقباط أو تهنئتهم بأعيادهم، ومرورا بأن يقول أستاذ العربى لأحد أقاربى صغار السن، إنه لا يجوز أن يأكل طعاماً فى بيت مسيحى أو يقبل هدايا منهم، ونهاية بقتلى ودماء أزهقت لأبرياء سقطوا فى هجمات إجرامية على كنائس لأقباط مصريين فى مدن عدة فى الصعيد، وسط كل هذه الأجواء، انكفأ غالبية المسيحيين المصريين على أنفسهم، وزاد ارتباطهم بالكنيسة القبطية كمؤسسة رسمية تعبر عنهم وعن مصالحهم. وكان الأقباط، كما كل المصريين، لا يشاركون فى أى انتخابات ليقينهم بأنها كانت عملية هزلية مسرحية، وأن الأكثر جدوى هو الاحتفاظ بخطوط اتصال مفتوحة مع مؤسستى الرئاسة والداخلية لتلبية مطالبهم. أما القطاع الصغير من الأقباط الذى كان يتجه للمشاركة فى الانتخابات، فلقد كان ميله دائما إلى الأحزاب اليسارية والليبرالية، كالتجمع والوفد، لأن الدفاع عن حقوق المسيحيين المصريين والتعامل معهم على أساس المساواة الكاملة فى إطار مبدأ المواطنة، كان يشكل ركنا أساسيا من برامجهم السياسية. ولم يتهم أحد فى ذلك الوقت هذين الحزبين بأنهما أحزاب مسيحية أو أنهما يحظيان بدعم الكنيسة. هذا الوضع لم يكن دائما مرضيا لكثيرين من الأصدقاء الأقباط العلمانيين والتقدميين، لكنه واقع الحال على مدى العقود الأربعة الماضية. بعد ثورة 25 يناير، التى كان أحد أهم إنجازاتها الإصرار على ضرورة عقد انتخابات نزيهة، وجد المصريون أنفسهم أمام واقع جديد يتطلب المشاركة للدفاع عن مصالحهم فى مجتمع يقوم على التعددية. وبمقتضى هذه التعددية والحرية غير المسبوقة فى إنشاء الأحزاب، حتى لو كان بعض قادتها يتبنون فكرا طائفيا بحتا، أصبح لدينا أعضاء فى البرلمان يقولون صراحة إنهم يرفضون تولى الأقباط والمرأة المناصب العامة، وغالبا يتمنون فى جلساتهم الخاصة والمغلقة لو يتم حرمان الأقباط من بناء الكنائس، وطردهم من القوات المسلحة، لأنهم لا يسعون لإعلاء كلمة الله وتطبيق شريعة الإسلام كما يرونها، وأن يتم فرض دفع الجزية عليهم. فى مواجهة هذه الأجواء والمواقف الطائفية، ما الأحزاب التى من المتوقع أن تحصل على تأييد المسيحيين المصريين، سواء كانوا مرتبطين بالكنيسة، كما الغالبية، أو ممن يرفضون سطوتها ووضعها الحالى؟ من الطبيعى أن تذهب أصواتهم إلى الأحزاب التى تتبنى الفكر الليبرالى واليسارى، الذى يعتبر مبدأ المواطنة والمساواة بين الجميع بغض النظر عن دينهم أو جنسهم، ركنا أساسيا من أركانه. وفى ضوء التراجع الواضح للأحزاب التقليدية، كالتجمع والوفد والناصرى، التى فقدت جزءا كبيرا من شرعيتها بعد ارتباطها بصفقات مع نظام المخلوع مبارك، فلقد كانت البدائل الوحيدة المتاحة، سواء للمسيحيين أو أنصار الفكر الليبرالى واليسارى بشكل عام، هى الأحزاب المنتمية إلى «الكتلة المصرية» أو قوائم «الثورة مستمرة»، وكلها أحزاب مصرية خالصة لا إسلامية ولا مسيحية، ولكنها تضم الجميع مسلمين ومسيحيين. أم أنه من المطلوب أن يذهب المسيحيون للتصويت لحزبى الإخوان والنور، رغم الشكوك البالغة فى صدق مواقفهم نحوهم وإيمانهم الفعلى بمبدأ المواطنة والمساواة؟ ولماذا يتم اعتبار تحفيز المسيحيين على المشاركة فى التصويت واعتبارهم كتلة يحق لأى حزب استهدافها مسألة طائفية، بينما يتم التعامل بكل تسامح مع المرشحين الإسلاميين الذين كانوا يكبرون فى ميكروفونات المساجد ويدعون المواطنين إلى التصويت لصالح الإسلام بما يعنى أن كل من يخالفهم فى الرأى تنتزع عنه صفة الإسلام؟ ولماذا ينزعج الإخوان والسلفيون كثيرا من حزب يُنشئه رجل أعمال مسيحى، رغم معرفة الجميع بأن توجهاته الليبرالية والرأسمالية تفوق انتماءه إلى الكنيسة، وبأن غالبية أعضائه من المثقفين المسلمين؟ بل ويشكون أيضا من أن رجل الأعمال ينفق على ذلك الحزب من ماله الخاص متجاهلين مئات الملايين من الدولارات التى تتدفق عليهم من مال الخليج الحلال الزلال. وبجانب إصدار الأحكام العشوائية بالخروج على الملة ممن يرون أنهم ورثة الله على الأرض، خرج علينا الأستاذ الفاضل فهمى هويدى بمقال فى الزميلة «الشروق» مؤخرا، يتهم فيه أنصار الأحزاب الليبرالية واليسارية فى مصر بأن لهم ميولا إسرائيلية، مستغلا فى ذلك تصريحات لرئيس الوزراء الإسرائيلى، يعبر فيها عن قلقه من الفوز الكبير الذى حققه الإسلاميون فى الانتخابات. وهكذا أصبح الليبرالى أو اليسارى المصرى مسيحيا أو يحظى بدعم الكنيسة، وكذلك صهيونيا مؤيدا لإسرائيل. أى تخوين وابتذال هذا؟ بالطبع أسباب قلق نتنياهو من الإسلاميين معروفة ومرتبطة بقلقه على مستقبل اتفاقية كامب ديفيد، التى قال قادة الإخوان والسلفيين أنفسهم إنهم لن يسعوا لإلغائها، فى محاولة واضحة بالطبع لتهدئة الولاياتالمتحدة والغرب. وهذه الأسباب مختلفة تماما عن أسباب قلق أنصار التيارات الليبرالية واليسارية فى مصر من هذا الانتصار الذى حققه الإسلاميون فى الانتخابات، المرتبطة أساسا بالخوف على مصير الحريات العامة ووضع المرأة وحرية الرأى والتعبير. هذه الدعاية الرخيصة لن ينجم عنها أى خير لمصر، ولو كانت هذه هى البداية، فأول القصيدة كفر كما نقول فى مصر.