لماذا يضحك حبيب العادلى فى القفص؟ سؤال قفز إلى العقل مع توالى ابتسامات رجل اللعنات الأعظم لعهد الرئيس المخلوع، يقف وحيدا فى الصف الأول لقفص الاتهام، فيما يتوارى مساعدوه للخلف، بدا زعيما موازيا للديكتاتور النائم على سرير النجاة من نظرات التشفى، الجلسة المستقيمة الثابتة، تتبادل مع وقفة تشبهها، الوجه منتبه لما يدور دون الإفراط فى انفعال يسهل تفسيره، اليدان مضمومتان، والعينان تزوغان على فترات متباعدة، والملامح مفروشة على ابتسامة مخفية، جاهزة وقت اللزوم لتضفى على المشهد ثباتا مفتعلا. هذا هو الكادر الأشهر لجلاد الديكتاتور المخلص، يعزز من خلاله إظهار الثبات، ورباطة الجأش، فى وجه صرخات ولعنات لن تجدى معها محاولة استعطاف مستحيلة. لعبة الثبات الإعلامى عند السفاحين مكررة وناجحة فى أغلب الأحيان.. سبق أن فعلها صدام حسين، تقمص دور المدافع عن الوطن فكسب تعاطف كثيرين تناسوا عمدا جثث ملايين العراقيين، وفضائح أبنائه وسجونه وذهب قصوره.. أدرك خصوم صدام ما كسبه من نقاط خلال محاكمته، فحاولوا تجريده منه فى الوقت الضائع بلا جدوى.. قال مستشار الأمن القومى وقتها، موفق الربيعى، على سبيل المثال: إن صدام كان يرتعش ويصرخ عند إعدامه.. لكن عصر الإنترنت والموبايل بدد كذب الربيعى سريعا، وظهر السفاح يقف فى مواجهة الموت ساخرا! تصب تفاصيل كادر العادلى فى رسم صورة أخرى موازية لصورة القاتل، تقول إنه شخص منضبط ينفذ الأوامر، ويؤدى واجبه، وهو منطق يراه الدفاع مدخلا لإبعاده عن حبل المشنقة.. يداعب العادلى عبر كادر الانضباط شريحة عريضة من ضباط مشوهين نفسيا، رأوا فى الهجوم على الثوار بالرصاص الحى مناصرة للشرعية القائمة وقتها، وهو مبرر ساقه لى ضابط شرطة صديق، كان يدافع عن العادلى وقت ثورة يناير، لأنه «لم يتخل عن موقعه فى الوزارة لأيام تلت جمعة الغضب». وقف العادلى كقائد لمجموعة من المتهمين هم فى الأصل مساعدوه السابقون، بدا متأثرا بكونه الأقدم فى المحاكم، هو «نبطشى» رموز النظام فى طرة، أول متذوقى طعم الأحكام الجنائية من الدائرة الصغيرة المحيطة بمبارك.. والأقدمية معيار له وزنه فى السجون وعند ضابط شرطة سابق، فإلى جانب نيل الرتب، حسب الأقدمية، يتعامل المجرمون بالمنطق ذاته، فيأخذ السجين (النبطشى) هيبته فى الزنزانة، يتسلم مواد الإعاشة، ويعين نفسه رئيسا لجمهورية مساحتها أمتار معدودة. ثبات العادلى كان مصطنعا، يمشى مشية العظماء، ويبتسم ويضم يديه، عساه يضغط على عواطف تلاميذ سابقين، كانت طلته كفيلة ببث الرعب فى أنفسهم، عند أى زيارة لكلية الشرطة، أراد الحفاظ على ما تبقى من تراث الرعب، فذهب بنفسه للسلام على الضباط من الجيش والشرطة، لأنهم بالطبيعة لن يردوا سلامه، فى حين يضيف مشهد السلام على نفسه بعض العزاء، وعلى المشاهد كثيرًا من الغضب، فيوحى أن الرجل يتمتع بنفوذ فى قاعة من المفترض أنها أول خطوة لإعدامه. الثبات الآن طريق نجاة لقطاع عريض من الفلول.. تحول خطابهم من الثناء على الثورة ونقاء شباب التحرير إلى إعلان صريح حبهم للديكتاتور المخلوع، قال أسامة سرايا ذلك فى حوار فضائى، أدى فيه نمرة «الفل» مثله مثل طلعت زكريا، وظهر أخيرا مخلوع آخر هو عبد الله كمال يقول إن الديكتاتور كان حاكما وطنيا خدم مصر، وتحدث عن نفسه، مبررا مواقفه السابقة بأنه «رجل حزبى من 2003، وكان ملتزما بمبادئ الحزب، مقتنعا بدور جمال مبارك الإصلاحى!!»، ودلل على نقاء ضميره بأنه هاجم يحيى الجمل وهو نائب رئيس وزراء، لأن الأخير -حسب زعمه- «حصل على أراض للدولة، واستفاد من النظام، لكن الجميع الآن يكثر من سكاكينه».. المثير أن رئيس التحرير الثابت على حبه للديكتاتور، كان ضيفا على الجمل برفقة رئيس تحرير أسبق ل«صباح الخير» يترجاه الاستمرار فى موقعه.. وعندما واجهه الوزير العجوز باستحالة ذلك.. ظهرت حكاية الأراضى! على مستوى الرؤوس الكبيرة «فالثبات الزائف بات مصيرا، قال مثلا زكريا عزمى لمرافقيه فى طرة إنه متعود على المواجهات والحروب، ويعتبر نفسه أسيرا حربيا، وهو الرجل الذى خاض المعارك الكبرى، وسيأتى يوما ويخرج للحرية. تبلغ أوراق قضية مبارك 20 ألف صفحة، لفت نظرى ملاحظات كتبها محقق النيابة، قبيل إعلان قراره بالحبس على ذمة التحقيق.. تقول: إن الرجل (مبارك) انتابته نوبات من البكاء خلال إجابته عن الأسئلة.. وأنه كان يرتدى بدلة رياضية وشعره أسود مصبوغ.. إذن نحن أمام ازدواجية ملحوظة.. أمام رجل منكسر ويبكى، لكنه يظهر وهو يخفى ملامح عمره بالصبغات.. رجل يدخل على سرير مرضى ثم يصيح متماسكا «أفندم أنا موجود»، «وأنكرها جميعا». العادلى هو عصا الديكتاتور التى تحرص على صلابتها، ظهر الجلاد معلنا التحدى.. تعلم من درس مبارك الباكى.. ومن قبله فتحى سرور الذى انهمرت دموعه وهو يرى أحد تلاميذه يأمر بحبسه.. سلط ابتسامة «النبطشى» رئيس جمهورية الزنزانة فى وجه الجميع، لعلها تزيح عن وجدانه اللعنات المنهمرة عليه من الجميع.