«أنا كل يوم أسمع.. فلان عذبوه / أسرح فى بغداد والجزاير وأتوه / ما أُعجبش م اللى يطيق بجسمه العذاب / وأُعجب من اللى يطيق يعذب أخوه / عجبى». كان صلاح جاهين فى رباعيته العبقرية لا يزال يؤمن بإنسانيتنا ورفاهة مشاعرنا، كان لديه يقين أن الحد الأدنى لنفوسنا على اختلاف أشكالنا وميولنا ورغباتنا لا يزال ينفر من مبدأ تعذيب الجلاد للضحية. كان وكان ولم يعد الأمر هكذا الآن. لم يعد هذا الجانب الإنسانى موجودا لنخاطبه، ليس لأن الإنسان لم يعد إنسانا بل لأن هذا الإنسان اعتاد على سماع مثل هذه القصص، وهذه جريمة أخرى تنسب إلى النظام السابق، فقد تحول التعذيب بالتدريج إلى جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية للمواطنين، حتى أصبح عاديا، وأن تحول جريمة إلى شىء عادى لهو من الكبائر فى حق أى مجتمع. بالنسبة لجيلى كان تعذيب المعتقل السياسى هو إحدى القصص المرعبة التى نقرأ عنها ونسمع بها، إلا أنه لم يمر وقت طويل حتى أصبح التعذيب داخل أقسام الشرطة على جرائم مدنية هو القاعدة، فنسمع عن امرأة حرق أجزاء من جسدها ثم تم اغتصابها لتعترف أنها قتلت زوجها، ثم نسمع عن نشال تم تعليقه ثلاثة أيام ليعترف بسرقة شقة، ثم نسمع عن شاب أصابه الشلل من جراء التعذيب فى القسم، وتتوالى القصص يوما بعد يوم، ولا يهتم المواطن بها لأنها ببساطة كانت تنشر فى صفحة الحوادث، لتأكيد انتساب هؤلاء المعذبين إلى عالم الإجرام، ثم إنه كان يتم التعتيم الكامل عليها، والأهم أنه كان يتم الضغط على الأهل، لكى لا يثيروا الموضوع. كان البعض يتجرّأ ويثير مسألة التعذيب، وقام بعض الذين وهبوا حياتهم لهذا الموضوع بإثبات الوقائع عن طريق الشهادات والطب الشرعى، لكن التضامن ظل قليلا بشكل ملحوظ، كما أن السلطة كانت بالطبع دائما ما تلجأ إلى وسائل رائعة لطمس هذه الحقائق، تبدأ من تشويه سمعة العاملين فى مجال الدفاع عن حقوق الإنسان ولا تنتهى باعتقال النشطاء وتعذيبهم! اعتمدت هذه الوسائل على تجييش المجتمع، فكانت تؤكد دائما أن هذه الوقائع تهدف إلى تشويه صورة مصر «ومؤخرا إثارة الفتنة»، وعندما كانت التقارير الدولية تؤكد ارتفاع نسبة الانتهاكات داخل الأقسام، كانت السلطة تعلن بفخر أنها لن تسمح لأحد بالتدخل فى شؤون مصر الداخلية. بكل هذا التجييش المجتمعى، وبكل وسائل التخويف والإرهاب، نجحت السلطة فى إجبار المواطن على قبول فكرة التعذيب، بل وحولته إلى أمر شائع ومقبول، ولو على مضض. كان الدرس الأوحد المستفاد لدى المواطن هو ضرورة تجنب دخول قسم الشرطة لأى سبب كان، ومن هنا بدأت عملية منظمة لإهدار الحقوق بشكل علنى، ووقع التحييد الكامل لمبدأ الانتهاك والمواطنة والحماية القانونية. الحقيقة البشعة فى كل مسألة التعذيب هى وصول المجتمع إلى التبريرات المختلفة، فقد نجحت السلطات فى إقناع «الأغلبية الصامتة» بأن التعذيب جائز ومقبول لتأديب المجرم والبلطجى، هكذا تجد أحدهم يجادل فى ضرورة وقوع التعذيب، وأن الشخص كان يستحق ما حدث له، وكم شهدت من أناس أعرفهم جيدا تبريرات قوية لتعذيب كل المعتقلين الإسلاميين. هذا المجتمع الذى يطمح الآن لانتخابات «نزيهة» لا يرى ضررا فى تعذيب أحدهم حتى الموت، ولا يرى أى أهمية لمثل هذا الشخص الذى أشاعت عنه السلطة «الخصم» تعاطى المخدرات. وكأن تعاطى المخدرات أو السرقة يسمح قانونا بتعذيب شخص بأبشع الوسائل، حتى تفيض روحه. هكذا يظهر الاختلاف الآن حول موت الشاب عصام عطا، الذى مات تحت التعذيب فى سجن طرة، والعجيب بل والغريب أن «اللفافة» الشهيرة وجدت فى أمعائه. من أذكى التعليقات التى قرأتها على «تويتر» أن كل البشر «من المهد إلى اللحد»، فيما عدا المصريين فنحن «من اللفة إلى اللفافة». انتهى الجانب الإنسانى المتعلق بالتعذيب الذى يجعل أعتى المجتمعات الراسخة تنتفض، وتركز الموضوع الآن ما إذا كان الشخص يستحق أم لا، أما الحقيقة المثيرة للغثيان والغضب فى الأمر برمته فهى معرفة الغرب «المتحضر» لهذه الحقيقة، فكان يرسل متهميه لتناول وجبة التعذيب إلى مصر، لأن القانون فى بلادهم «الراقية» يمنع ذلك، وهو الغرب أيضا الذى يوجه التوبيخ الشديد فى تقاريره السنوية لسوء معاملة المعتقلين فى العالم العربى، لكنه فى الوقت ذاته يجنى أرباحا خيالية من تصنيع وتصدير آلات التعذيب إلى العالم الثالث. نعم يعرفون أننا لا نجزع من التعذيب، ولا نرى فيه انتهاكا يسقط حكومات كاملة، يعرفون أنه قد تم ترويضنا منذ زمن، وكل شخص يبرر التعذيب أو يقبله يعتقد أن الأمر بعيد عنه تماما، لكن ما لا يعرفه هؤلاء المدافعون المبررون أن التعذيب قابع عند قدميك فى أى لحظة، ودون أن تتوقع.