لا أدرى هل أصبحت أهذى أم أصابنى مس من الجنون؟ إننى أعاتب نفسى منذ مدة عما غدوت أعتقده من أن حالنا كان سيمضى نحو الأفضل، لو أن الجيش قد استمع لأوامر مبارك، وقام بفتح النار على المتظاهرين! لو أن هذا قد حدث ومضى الأمر لمنتهاه، ومررنا بالرحلة الجهنمية بجميع مراحلها، التى يقتل فيها الجيش الشعب. لو أن هذا قد حدث وسالت الدماء أنهارا، وسقط القتلى فى كل محافظات مصر، ثم أسفرت الأحداث فى النهاية، رغم الخراب والدمار، عن انبلاج فجر جديد، وقوده عشرات الآلاف من الشهداء، فإن من يتبقى منا بعد ذلك كان سيعيش فى عزة وكرامة، بشروط الثورة، وليس بشروط العهد البائد. لو أن الجيش قد نفذ الأوامر، وقام بقصفنا بالفسفور الأبيض، فإن النصر كان سيكون حليفنا فى نهاية المطاف، ولم نكن لنرى ضابط شرطة عسكرية، يستقبل اللص القاتل حبيب العادلى بكل الحب والهيام، لدرجة نتصور معها أنه فى الجلسة القادمة، هناك ضابط آخر قد يترك لمشاعره العنان ويبوس حبيب العادلى من بُقه. إننا لسنا شعبا مرفها، وقد خبرنا وتعلمنا كل أنواع الألم، وجربنا الموت المجانى منذ عشرات السنين.. لقد مات أجدادنا بالآلاف وهم يحفرون قناة السويس تحت ضرب السياط، وقدمنا شهداء لا حصر لهم فى معاركنا، التى لا نهاية لها، سواء ضد الإنجليز أو ضد الإسرائيليين.. وفى كل مرة كانت تضحياتنا بلا مرجوع، وكانت دماؤنا تضيع هدرا، لقد أضاعنا الملك فاروق فى 48، وأسهم فى سفك دمائنا، وأضاعنا عبد الناصر فى 67 وحطم آمالنا، وأضاعنا السادات بعد 73 وأهدر نصرنا اليتيم.. لدرجة أن التاريخ لو عاد بنا، فإننى لن أشارك فى محاربة الإنجليز، بعد أن علمت أنهم سيأتون دون جيوش، ومعهم الأمريكان، ليحكمونا من جديد، ولن أضيع حياتى فى محاربة الإسرائيليين، بعد أن علمت أن حسنى مبارك سيكون المستفيد الوحيد، ولسوف تحمله تضحياتنا إلى كرسى العرش، وتساعده دماؤنا على ملء خزائنه بالبنكنوت، وأنه سيكون خادما للإسرائيليين فيبوح لهم بكل الأسرار، ويمنحهم أرزاقنا وقوت عيالنا، مقابل حمايتهم لعرشه. إن حالنا لا يختلف عن حال شعب الجزائر، الذى قدم مليون شهيد فى سعيه نحو الحرية، ثم وجد نفسه بعد أن تخلص من الاستعمار يحلم باليوم الذى يتخلص فيه من التحرر! أنا أعلم أن الشهداء لا يقرؤون الغيب، ولا يعرفون أن دماءهم ستمضى هدرا، لكننى أفترض أننى شققت الحجب وعرفت السيناريوهات القادمة، وعليه فلن أسمح لنفسى بالمشاركة إلا فى الحرب الوحيدة التى يأتى بعدها التحرر الحقيقى، وتأتى بعدها العزة والكرامة.. لهذا فإننى لم أكن لأجزع لو أن الجيش الذى رفض أن يضربنا قد ضربنا.. ماذا كان لدينا لنخسره؟ إننى أزعم أن ثورة 23 يوليو، التى يزهون بأنها كانت ثورة بيضاء، قد فشلت واستقرت فى أحضان حسنى مبارك، بسبب بياضها الناصع، وكان ينقصها الكثير من الحمرة حتى لا نضطر للقيام بثورة أخرى فى يناير 2011. إن ثورة يناير يتم التلاعب بها، لأنها لم تقطع الشوط إلى نهايته، فتقوم بذبح كل الذين وضعوا أحذيتهم على رقابنا، والنتيجة هى ما نراه الآن.. الثوار يتسولون العدالة، ويشحذون حقوق الشهداء، بعد أن تصوروا أن النبل هو أن تسيل دماء أبنائنا وحدهم مع الحرص على حقن دماء الأعداء! إن النصر الجزئى المبتور الذى حققته ثورتنا قد جاء بفضل الشباب البواسل الذين كسروا جهاز الشرطة، ولم يكتفوا بأن يموتوا فقط!. هذا جزاء من يقومون بثورة بيضاء، فى الوقت الذى كان ضروريا أن تكون حمراء قانية بلون جهنم. ولو اعتبر البعض كلامى هذا مجرد هذيان، فإنه هذيان لا أعتذر عنه.