الأحزاب الإسلامية الغيبية أحزاب مهمة منظمة لها وجود فى الشارع، ودائرة واسعة من النشطاء يؤمنون بوعودها، تحوط بها دائرة، ليست أكبر كثيرا من المقتنعين بقدرتهم على الحكم. الكهول والشيوخ ممن كبروا فى عصر ناصر والسادات أميل إليهم عن غيرهم. أما الأحزاب المدنية فلها وجود ضئيل، سواء من حيث عدد النشطاء المنظمين أم من حيث عدد المقتنعين بشعاراتهم العامة. وجودها بين الشباب أكثر من وجودها بين الكهول والشيوخ. لو جمعنا الطرفين لما تجاوز عدد ناخبيهم الخمسين فى المئة، معظمهم سيصوت للأحزاب ذات المرجعية الدينية. لكن الحزب الأهم تماما حزب الكنبة. ليس فقط فى مصر، بل فى أى بلد يعتمد نظاما انتخابيا ديمقراطيا. يسمونه عادة بالأصوات المتأرجحة. هو رمانة الميزان فى سياسة أى أمة. حين تحتاج إلى التشدد يميل نحو التشدد، وحين تفرط فى التشدد يميل نحو الليونة (إن لم يكن الوقت فات كما فى ألمانيا النازية). وهو الذى يؤرجح اتجاه البلد نحو اليمين ونحو اليسار. فى أمريكا هذا هو الحزب الذى جاء ببوش، وهو نفسه الذى جاء بأوباما. لكنه فى ديمقراطية راسخة، ذات أحزاب عريقة واضحة الهدف والمنهج، كالولايات المتحدة، أصغر نسبة بكثير منه فى الدول التى تتلمس خطواتها الأولى إلى الديمقراطية. فى مصر تكاد نسبة حزب الكنبة تصل إلى نصف عدد الناخبين تقريبا. يبدو أنهم حتى الآن لا يثقون بأحد إلا المجلس العسكرى (يسمونه الجيش)، ويميلون معه حيث مال. لم لا؟ سنوات من الدعاية المستمرة خوّفتهم تماما من فكرة أن يحكم مصر حزب ذو مرجعية دينية، يعتقدون أنها ستصير نموذجا لإيران. وعقود من حكم الحزب الواحد ربطت مصالحهم بالسلطة. بالكاد يعرفون أسماء الأحزاب المدنية، ويتعاملون معها بكثير من التشكك، ولا يزالون يعتبرون أن دورها لا ينبغى أن يتجاوز السنيد. حزب الكنبة لا يخلو من حكمة، أحيانا فى اتجاه الصواب وأحيانا عكسه. يجمع بينهما أنه فى اختياراته كلها يتعامل كالتجار، يحب أن تسير الأمور كما يتوقع ولا يرحب بالتغييرات الجذرية أو الصدمات، ولا يحب الكلام العام غير المفهوم ولا الأيديولوجيات، بل يريد أن يظن أن كل اختيار سيكون له مردود ربحى ما. علاوة شهرية فى يده خير له من عشر قفزات اقتصادية على الشجرة. يكره الألم ولا يمانع من اللجوء إلى المسكنات. من يسخر من حزب الكنبة لا يفهم فى السياسة، أو يفهمها فهما قاصرا، أو يفهمها فى نطاق الفعل الثورى الاعتراضى فقط. من يسخر من حزب الكنبة هم أنفسهم الذين يقضون بقية أعمارهم يبكون شعبا لم يقدرهم، وينسون أنهم لم يقدروه. من يسخر من حزب الكنبة يريح نفسه بالشكوى الدائمة بأن من حوله لا يفهمونه، بينما الحقيقة أنه لا يفهمهم. من يسخر من حزب الكنبة عاجز عن التفكير الإبداعى، ولا يملك مهارات التواصل (أهم مهارة من مهارات الديمقراطية). آدمِن صفحة كلنا خالد سعيد هو أنجح الشخصيات العامة المؤمنة بالثورة فى مخاطبة هذا الحزب. يحدثهم باحترام. يستمع إلى آرائهم. يشعرهم دائما أن القرار قرارهم، لكنه يضمن أولا أن لديهم المعلومات المطلوبة لكى يتخذوا القرار. بعض النشطاء يسخرون من لغة هذه الصفحة، ويصفونها بالسذاجة، رغم أنها فى الحقيقة نموذج لو نظروا إليه بعين تجرد لتعلموا منه كثيرا (وهذا بغض النظر عن خياراتها السياسية، إنما أتحدث عن فلسفة ومنهج ولغة الخطاب). ما الفرق بين المفكر والسياسى؟ الأول قادر على صياغة نظرية، أما الثانى فقادر على إقناع الناس بأن تطبيقها سيعود عليهم بالفائدة. الأول يضع نظرية بقاء الطاقة والثانى يخترع بها الدينامو. من يسب حزب الكنبة سيكون يوم الانتخابات يوم إعلان وفاته، ومن يفهم حزب الكنبة ويبذل مجهودا لإقناعه سيكون يوم الانتخابات يوم مولده. لا يعنى هذا أبدا مداهنة الحزب والنزول على رغبته. إنما يعنى التعامل معها، والتوصل إلى صيغة تقنعه بأن رغبته تلك على العين والرأس، لكن الوصول إليها له أكثر من وسيلة، «وفى الحقيقة فإن الوسيلة التى اختارها حزبى هى الوسيلة المثلى لتحقيقها».