لم تكن جمعة مثيرة. السلفيون عادوا إلى ما قبل السياسة كما كان متوقعا منهم، ولم يكن صوت العقل السياسى مؤثرا لدى حشود شحنت فى أتوبيسات من المحافظات. الحشد سهل وطبيعى إذا أعلنت أنك تريد الدفاع عن الإسلام... أو نصرة الله فى الميدان. وهذا لا يحتاج مجهودا سياسيا.. إنها قدرة على مخاطبة مشاعر هى نفسها التى تدعو الناس إلى الذهاب إلى العمرة أو الحج، تلبية لنداء الله. اللعب على هذه المشاعر قصر نظر سياسى، لأنه يصور المظاهرة وكل مظاهرة على أنها «معركة النهاية». السياسة هى بناء، وليست معركة بين من يحمل تصورا بأنه يمثل الخلاص النهائى، ومن يريدون بناء نظام سياسى جديد. هذه المواجهة إنهاء للسياسة، لأنها مصادرة من البداية على الحوار أو الخلاف أو حتى التوافق. إنه نقل للمعركة الدائرة الآن بين الثوار والمجلس العسكرى، حول رفض سلطوية المؤسسة العسكرية، إلى معركة أخرى فضفاضة بين المسلمين والكفار، أو بين المؤمنين والعلمانيين، أو بين من حضروا الحشد وكتلة أخرى ليست محددة. إنه فن صناعة الأعداء والمعارك الخاطئة. السلفيون ضيعوا فرصة مهمة لاستعادة لحظة التوافق.. وذكّروا بتاريخهم الذى لعبوا فيه دور الجيش السرى لجهاز أمن الدولة، وهم عناصر من جماعات دخلت منذ فترة تحت عباءة النظام، واعتبرت جناحه أو ذراعه الدينية، يضرب بها جماعة الإخوان المسلمين، معتمدا على أفكار تحرم «الخروج على الحاكم». الجيش السلفى لعب أدوارا مهمة لجهاز أمن الدولة، أهمها احتلال مواقع فى الشارع لحصار الإخوان، ولعب دور الفزاعة لتحجيم سطوة الكنيسة والبابا. السلفيون اكتشفوا جانبا مضيئا لهم فى ميدان التحرير، يخرج عن طاعة الأجهزة التى ربتهم، السلفى فى الثورة مثل الإخوانى غادر موقعه، وانتمى إلى لحظة الخيال، وتحويل الميدان إلى فضاء متعدد يجلس فيه صاحب اللحية المتدلية بجوار فتاة عصرية تضع سيجارة بين إصبعيها ويتكلمان عن المصير المشترك. السلفى فى جمعة «ضرب التوافق» عاد إلى موقعه القديم، واستعاد صورته عندما كان يمنح مبارك كل المبررات الشرعية للطغيان.. فى الأيام الأخيرة لمبارك، أصدر شيخ سلفى فتوى بضرورة قتل البرادعى لأنه يدعو للعصيان. الشيخ السلفى، وبعيدا عن تلقيه أوامر الفتوى من ضابط بأمن الدولة، كما كشفت الوثائق المتسربة من الجهاز، يعتمد على فكرة أن الخروج على الحاكم حرام، لأن النظام غالب ومسيطر. شرعية من الماضى، لكن السلفى مؤمن باستعادتها، وكأنها حقيقة ناصعة، خالدة، ليس المهم الطريق إليها، المهم أنها ستحقق الخلاص الجماعى والتحول إلى أمة نقية. السياسة هى تذكرة الجنة، للسلفى، لكنها ليست على طريقة جماعات الجهاد (بمفاهيمها القديمة) ولا الإخوان (بحرصهم على البقاء أحياء فى ظل حروب السيطرة والسلطة مع الأنظمة)، ولكن بنشر الدعوة، والتركيز على الحياة الشخصية، حتى تحين اللحظة الحاسمة فيخرجون إلى الشارع لدعم دولة الإيمان النقية. هذه جمعة خاسرة للسلفيين. جمعة كاشفة لمن يلعب ضد السياسة، لصالح «السلطوية» لا لصالح «الجيش». الثورة حررت المجال السياسى، وهذا التحرر منح السلفيين الحق فى الوجود، والإعلان عن الوجود. الخطر ليس وجود السلفيين ولكن فى طغيان تيار الإقصاء الذى يستفيد من يريد تحرير المجال السياسى، لإغلاقه من جديد.. لصالح من؟ هل سنلهث جميعا لكى ينقذنا المجلس العسكرى من السلفيين؟ هل هذا هو المطلوب من جمعة «فرّق تسد»؟