إلى كل مَن يعتقد أن الثورة المصرية قد انحسرت أو انتهت، إلى كل مَن يحلو له ترديد أن الثورة لم تغيّر الناس دون أن يفهم ما يقوله أولًا ويعرف أنه لا توجد ثورة فى العالم غيّرت الناس، إلى كل مَن يستغرب ما يراه بداخله وحوله من مشاعر سلبية متناقضة وحادة وصارخة تثير فيه القلق والخوف، إليهم جميعا أهدى هذه السطور البديعة التى اخترتها بتصرف من كتاب (روح الثورات) لعالِم الاجتماع الفرنسى جوستاف لوبون الذى ترجمه منذ عشرات السنين الأستاذ عادل زعيتر وأعادت إصداره دار الكتب والوثائق القومية. لعل من تتقلب بهم المشاعر فى هذه الأيام يدركون أننا لسنا بدعا بين الثورات. فى فصل يحمل عنوان (كيف تتلقى الأمم الثورة) يقول لوبون: «شأن الشعوب واحد فى الثورات كلها، فهى لا تدرك مغزاها ولا تتدبر أمرها سريعا.. ولا يخلع الطاعة فريق من الشعب بغريزته إلا إذا مس الضر منافعه الظاهرة. ويسهل وقوع الثورة إذا كان زعماؤها من ذوى النفوذ العظيم، أما مبادئ الثورة فلا تدخل فى قلب الشعب إلا بالتدريج... إن الثورة مهما كان مصدرها لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعة، فالجماعة تتم الثورة ولا تكون مصدرها، وهى لا تقدر على شىء ولا تريد شيئا إن لم يكن عليها رئيس يقودها، ولا تلبث الجماعة أن تجاوز الحد الذى حرضت عليه، وإن كان التحريض لا ينشأ عنها أبدا.. إن الثورات السياسية الفجائية التى تعجب المؤرخين هى أقل أهمية من غيرها فى بعض الأحيان، فالثورات الكبيرة هى ثورات الطبائع والأفكار، وفى الغالب تتم الثورات الحقيقية التى يتوقف عليها مصير الأمم بالتدريج، وهذا ما يجعل المؤرخين يَلْقَون مصاعب فى تعيين بداءتها، ولذلك نرى كلمة التطور أصح فى التعبير عن المقصود من كلمة الثورة... ولذلك يتعذر على الأمة أن تختار نُظمها الحاكمة قبل أن تغير روحها أولا». وفى فصل بديع يحمل عنوان (تقلبات الخلق أيام الثورات) يقول لوبون كلاما شديد الأهمية عن التحول الذى يحدث فى شخصية البشر أيام الثورات، والذى يعود سببه إلى أن لكل إنسان نفسية ثابتة، لكن له أيضا شؤون خلقية متقلبة تظهر مع تغير الحوادث، وهذه الأخلاق تتكون من اجتماع شخصيات وراثية كثيرة تبقى متوازِنة ما دامت البيئة المحيطة به لا تتقلب، لكنها متى تقلبت كثيرا وحصل فيها تغير حاد، يختل توازن الإنسان وتتألف من تكتل عناصره الموروثة شخصية جديدة ذات أفكار وعواطف ومناهج تختلف جدا عن شخصيته العادية، ولذلك يلاحظ فى الثورة الفرنسية أن كثيرا من رجال الصلاح والقضاء الذين كانوا يوصفون بالحلم والعقل انقلبوا فى أيام الثورة العصيبة إلى متعصبين سفاكين للدماء، فهم أناس لم يتغير ذكاؤهم أو عقولهم، وإنما تغيرت مشاعرهم فتغيروا كليا. يقول لوبون إن هناك عناصر عاطفية يساعد انتشارها أيام الثورات على تغيير شخصيات الأفراد والجماعات مثل الحقد والخوف والحرص والحسد والزهو والحماسة، وقد لوحظ تأثير هذه العناصر فى انقلابات التاريخ كلها، لا سيما فى الثورة الفرنسية الكبرى «للخوف فى أيام الثورات شأن عظيم يقترب من شأن الحقد.. لقد كان الظهور بمظهر العاقل المعتدل أخوف ما يخافه الناس، فقد سابق أعضاء المجالس وموظفو الاتهام أو قضاة المحاكم خصومهم فى التطرف، أى فى اقتراف الجرائم، ولو أن معجزة أزالت الخوف من المجالس الثورية لكان لها سير آخر ولكان للثورة الفرنسية وجه آخر». ثم يتحدث لوبون عن النفسيات التى تسود المجتمع فى أيام الثورة. ومن بين ما توقفتُ عنده طويلا حديثه عن النفسية الثورية حيث يقول «تشتمل المجتمعات فى كل زمن على عدد من النفوس المضطربة المتقلبة الساخطة المتأهبة للتمرد، الراغبة فى الفتنة للفتنة نفسها، ولو أن قوة سحرية حققت آمالها بلا قيد ولا شرط ما عَدَلت عن التمرد، وتنشأ هذه النفسية فى الغالب من عدم الامتزاج بالبيئة، أو عن الغلو فى التدين أو المرض. وللتمرد درجات مختلفة تبدأ من الاستياء الطفيف الذى ينحصر فى كلام المرء عن الناس والأشياء وتنتهى إلى التخريب، وقد يصوب المرء صولته الثورية أحيانا نحو نفسه عند عجزه عن التصرف بها على طريقة أخرى، فلقد كثر فى روسيا عدد المجانين الذين لم يكتفوا بالتحريق وإلقاء القنابل، فتحولوا إلى أن يكونوا باخعين أنفسهم ومهلكين لها. هؤلاء على رغم العزيمة الظاهرة التى تدل عليها أعمالهم ضعفاء عاجزون عن مقاومة أقل المحرضات، والقوانين والبيئة تردعهم فى الأوقات العادية فيظلون غير مؤثرين، ولكن متى بدت أدوار الفتن فإن هذه الزواجر تضعف، فيطلقون عنان غرائزهم غير مبالين بالغاية التى نشبت الثورة من أجلها». ثم يضيف لوبون قائلا كلاما شديد الأهمية أتمنى أن نتوقف عنده طويلا «الروح الثورية تكون غير خطرة إذا صدرت عن العقل، بدلا من العاطفة أو التدين، فهى تصبح عامل تقدم وارتقاء، فعندما يصير حكم التقاليد والعادة ثقيلا على الحضارة نتخلص منه بفضل أناس من ذوى العقول المستقلة الثورية كجاليليو ولافوازيه ودارون وباستور الذين أعانوا على تقدم العلوم والفنون والصناعة فى العالم. ويجب أن يكون فى كل أمة عدد من هؤلاء الأعاظم الذين لولاهم لظل الإنسان عائشا فى الكهوف، وتتطلب الجرأة الثورية التى تُظهِر ما عند صاحبهات من الاكتشافات استقلالا ذهنيا يتخلص به من الأفكار الجارية بين الناس، وحصافة يدرك بها ما تحت المتشابهات السطحية من الحقائق». لكن لوبون يطمئننا أخيرا بأن ما يجعل شعبا يختلف عن الآخر فى نتائج الثورات، هو أن يكون لهذا الشعب روح وراثية مستقرة مع الزمن، لأن هذه الروح فى النهاية تتغلب على روح التخريب، ولذلك يظهر الشعب أحيانا بمظهر المتقلب، ولكن لنعلم أن وراء تقلبه وحماسه ومظالمه وهدمه، غرائز ثابتة متصلة تدعمها روح العَرَق. وقد أثبت تاريخ الثورة الفرنسية وتاريخ القرن الذى بعدها كيف تتغلب الروح الثابتة على روح التخريب فى نهاية الأمر، وما أكثر المرات التى جدد فيها الشعب حالا بناء ما هدمه من الأنظمة». يبدو كلام لوبون مُطمْئنًا من ناحية، لكن كلامه الذى سبق أن نشرته فى مقال سابق حول إمكانية أن يبنى الشعب نظاما أشد استبدادية إذا مل من الفوضى هو الذى يجب أن يثير فى نفوسنا القلق ويجعلنا نفكر بمسؤولية فى أى خطوة ثورية نخطوها أو أى شعار ثورى نرفعه. يبقى فى كتاب لوبون الكثير لكى نتأمله ونفكر فيه، لكن لذلك حديث آخر فى يوم آخر.