صحيح أن فلاسفة كثيرين نقدوا الديمقراطية، لكن انتهى الأمر إلى قبولها أو بتعبير آخر قبول ما تجمع عليه الأغلبية من اختيارات، ذلك لأن رفض الديمقراطية لا يعنى إلا إرادة الاستبداد، ومن يرفض الديمقراطية باسم الدين إنما يرفض الدين، وإن كانت للديمقراطية عيوب، فلنعمل على إصلاحها والوصول إلى ديمقراطية عقلانية. إذا كانت الديمقراطية تعنى احترام رأى الأغلبية، فلماذا لا نقدم وعياً سياسياً وتربية سياسية ووعياً وطنياً للجميع أغلبية وأقلية؟. أُشير بداية إلى موقف رأيته فى الأيام الماضية على شاشات قنواتنا التلفازية، رأيته فى إصرار بل فى عناد، يقول الطرف المتخَوف منه والمخَوف به: لا تخشونا فنحن ندعو إلى حكومة مدنية وليس فى الإسلام حكومة دينية، يقول الأذكياء!: الشعب متدين. يُقال هذا وكأن التدين مصيبة، ويرفضون الأخذ من الإسلام، وكأن الإسلام عقرب أو حية سامة، وكأن تشريعاته ليست قوانين ثابتة عادلة للجميع، وكأن ليس مبدأ أساسياً من مبادئه: (إنما هلكت الأمم قبلكم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد) وكأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لم يخاطب ابن القبطى الذى ضربه ابن عمرو بن العاص والى مصر: خذ السوط واضرب ابن الأكرمين (أى هذا الذى ضربك وقال لك إنه ابن الأكرمين). والأهم من ذلك: كأن الدين يرفض القوانين العادلة العاقلة حتى ولو كانت من غير الإسلام وفقهه وتشريعاته، وكأن حضارة إسلامية راقية علمت العالم، وأخذ عنها الغرب عدالتها وفنونها وقوانينها لم تقم، كأنها لم تقم ولم يشارك فى صنعها علماء ومترجمون كبار من أبناء الدين المسيحى، وكأن سماحة الإسلام ورعايته لأبناء الأديان الأخرى وعدله معهم أمور لم يسجلها التاريخ، أهو الخوف من الديمقراطية أم التخويف من الإسلام ومن الأغلبية المسلمين، وكأن هؤلاء المسلمين لم يجمعهم مع المسيحيين ما يزيد على الألف عام فى جوار وود على أرض وطن واحد، وطن واحد أحبهم وأحبوه، أخذوا معاً خيراته، وتجنبوا معاً شروره وما وقع على أرضه من اعتداءات عليهم. تخوفاتنا من الديمقراطية زائفة.. لكن فى ثقافة الغرب تخوف حقيقى من عيب أساسى فى الديمقراطية... لماذا لا نتعرف على موقف الفكر الأوربى لنستفيد وندرك أهمية التربية السياسية؟ بدايةً أُنبه إلى أن الديمقراطية ليست هى الحرية، والمفكر الأمريكى إيريخ فروم لم يجعل عنوان كتابه (الخوف من الديمقراطية) وإنما جعله (الخوف من الحرية) فالحرية مسئولية، والخوف من هذه المسئولية يجعل كثيرين من غير القادرين على تحمل المسئوليات يزهدون فى الحرية نفسها، ويتركونها (أمانة) عند غيرهم، وكان هذا دائماً وراء إرادة الاستبداد من ناحية، ووراء إرادة أن يُستبد بالمستَبد بهم من ناحية أخرى. ثم أذكر من بعد تفرقة الفيلسوف الألمانى الكبير كارل ياسبرز بين الديمقراطية وبين ما يسميه "فكرة الديمقراطية"، فالديمقراطية أدوات ومؤسسة وأوراق وانتخابات وإجراءات، وهى فى كل هذا وسيلة وليست غاية، أما فكرة الديمقراطية، وهى تحقيق الحرية السياسية، فهى الغاية والهدف. هل يعنى هذا أنه يمكن أن تتحقق الديمقراطية، ولا تتحقق الحرية السياسية؟ الإجابة: ممكن، وحدث فعلاً فى بلاد كثيرة، فالاستبداد يستعمل كل وسيلة متاحة، وهو يستفيد من كل وسيلة، ويتواءم مع كل المطالب، فالدنيا كلها ومنذ أيام الإغريق تطلب الديمقراطية، فلنتظاهر بحبها وعدم رفضها، ولنأخذها أداة ووسيلة وشكلاً باليد اليمنى. ثم نقضى على الغاية منها وهى الحرية السياسية بالتزوير وبالقضاء على النشاطات الحرة، وبالاستعانة بترزية القوانين!! يتحالف الاستبداد مع الشيطان حيناً ومع الملائكة حيناً آخر، ومعهما معاً أحياناً أخرى، ويستعمل الجماهير والكتل، وعند الضرورة يلجأ إلى العنف، يقوم به هو نفسه أو يُجند له آياد سوداء، وترزية الكلام، أصحاب قدرات، "وابن لى يا هامان صرحاً اطلع على إله الحرية المزعوم"، مقولة على لسان كل مستبد ساخر عنيد. يقول ولو ديورانت "فلاسفة كثيرون عرفوا الديمقراطية فى أثينا أو روما، فى باريس أو واشنطن، ومع ذلك، رفعوا أصواتهم بإجماع عجيب إلى السماء، وطلبوا من الله حكومة الأفضل" أى حكومة الفلاسفة والصفوة والمفكرين. أتدخل لأُنبه إلى أن كل مجموعة من أهل تفوق المال أو العلم يرون دائماً أنهم الأفضل، وسوف يتناحرون، ويتدخل بعض المتدينين باسم الإسلام ليقولوا: مادامت الديمقراطية مرفوضة لدى مفكرى الغرب أنفسهم، فلماذا لا نرجع إلى الشورى، وليس فى الإسلام شيء اسمه "الديمقراطية" أليست هى كلمة يونانية؟!، ونسى أصحابنا هؤلاء أنه ليست العبرة كما ذكر الإمام أبو حامد الغزالى بالأسامى وإنما العبرة بالمعانى و المقاصد، الديمقراطية والشورى يتحدان فى رفضهما الاستبداد، وفى عملهما الدءوب على تحقيق الحوار واحترام رأى الآخر. الخوف من الديمقراطية أو من عيبها، قُل بتعبير صريح الخوف من حكم الأغلبية واختياراتها أمر ذكره أفلاطون قديماً، وفى عصرنا فلاسفة ومفكرون كثيرون أشهرهم نيتشه ثم ألكس دى ثيوكيفيل، وقد عرفنا كتابه القيم "الديمقراطية فى أمريكا"، والنقطة الأساس المحورية عند جميع نقاد الديمقراطية، أنها لا تحترم الصفوة إذ فيها وبها تتساوى الأصوات إذ تعد عداً ولا تُقدر تقديراً، والأغلبية غير مثقفين، غير فلاسفة، فكيف نمكنهم من اختيار رجال الحكم أو هؤلاء المفترض فيهم أنهم الأكفأ، قال نيتشه إن الديمقراطية تؤدى إلى الكسل القطيعى "نسبة إلى كلمة قطيع"، وإلى التماثل الجماهيرى أو الجمهرى وتحويل الناس إلى حبات رمل لاحظ أن كل حبة رمل مثل الأخرى كيف نتوقع من عظماء الرجال أن يخضعوا لأكاذيب وتلاعب الانتخابات؟ ما الفرصة أمامهم؟ وهو يكره الديمقراطية أول ما يكره، خوفاً من أن تدفع إلى الحكم رجل الأعمال قصير النظر ضيق الأفق، وديورانت شاهد عيان على ما حدث فعلاً، يقول: (لا يحسن أن يظن بعض القراء أن الديمقراطية قد هيأت لنا حكومة بواسطة أحكم الناس أو أقدرهم)،ثم يمضى فيؤكد أنه (لا يوجد نظام انتخابى يمكن أن يباعد بين الأغنياء وبين الاستيلاء على السلطة). وكان من أبرز الانتقادات التى وُجهت إلى الديمقراطية مع بدايات القرن العشرين، أنها تُمكن (الجمهرة) أو (الكتل) من السيادة (يُقال إن حكم الأغلبية يميل إلى جعل الجمهرة تسود أكثر من الشخصية، وليس ثمة تقدير خاص لأصحاب الأصوات)، ذكروا عند هذه النقطة أن الطغيان يتحالف مع الجمهرة، ويُحسن توظيفها، فهى دائماً تريد إشباع حاجاتها الاستهلاكية الحياتية الفورية، ولا تنظر إلى المستقبل، ولا تعنيها المشاركة السياسية ولا الحرية السياسية أساساً، والجمهرة كما أوضح جوستاف لوبون بحق، تميل مع الهوى، ولا تحتكم إلى العقل، ولا يسودها التفكير الهادئ الموضوعى، يرى لوبون أن الجمهرة تتجه إلى إفراز الحاكم أو القائد المستبد، وإذا كانت الحضارات هى دائماً من إنتاج الصفوة المبدعة المثقفة الواعية، فإن الجمهرة أو الجماهير قوة للتدمير، والقادة الذين تفرزهم الجمهرة هم غالباً فصحاء مهرة فى كسبها، ويعملون على الإغراء بمداعبة الغرائز، لكن مع هذا كله حدث أن انتهى الأمر فى الغرب إلى التسليم بالديمقراطية، فرفضها لا يعنى إلا شيئاً واحداً هو الدعوة إلى التسليم للاستبداد أو التمهيد له. وقامت توصيات عُمِل بها، ونهضت إرادة قوية لحكم القوانين وسيادتها، ومعها دائماً كراهية العنف، وأدرك الجميع صحة القول بأنه حينما يكون عنف يحكمنا الخوف، أما عندما يسود القانون، فنحن نحيا فى هدوء، ذلك لأن القوة والبطش له وجوه عدة، أما القانون فقابل للحصر، وهو مصدر نظام وحماية للفرد، حيث بُحكم العنف والاستبداد نجد الخوف والصمت والتخبئة والإرغام والقلق، أما فى الدولة الدستورية فيسود الحق. للفرد مطلب مزدوج: الحماية من العنف، وهذا تحققه له الدولة الدستورية، وأن يكون لرأيه وتقديره وإرادته دور، وهذا يتحقق بالديمقراطية، ولذلك فهى ضرورة ولا مهرب منها، إنها حكم القانون، وإذا سلمنا بأنه لا يوجد فى أى مكان فى العالم نظام خير بصورة كاملة، فلابد من الديمقراطية، مع المحاولة المستمرة، لرفع مستوى الناخبين، بل المرشحين، الديمقراطية تكدح نحو القوانين، والقوانين تعنى الثبات، ورفض الهوى، ومقاومة الظلم، فالقانون فى أساسه انطباق على الجميع، وهو قول صحيح تماماً، أن السلطة بدون الحرية والقانون لا تعنى ولا تتجه إلا إلى بربرية واستبداد، فالقانون ثابت والاستبداد متعدد الوجوه، أما الحرية فمرتبطة بالحقيقة، فلا حرية فى ظل تخبئة وإخفاء لحقائق، ولا حرية مع وجود ترزية قوانين يغيرونها دائماً، فالقانون لغة وفهماً وروحاً يعنى الثبات، لأنها ابنة الدستور، والدستور ثابت فهى ثابتة، لا تغير إلا عن طريق ديمقراطية ومجالس نيابية، وتقوم القوانين لتبقى أساساً لا لتغير، أما إذا لزم الأمر حقاً وصدقاً وفعلاً فهى تغير تحت ظلال قبة الديمقراطية، وهنالك يقيمها ممثلو الشعب بالحوار والنقاش المفتوح غير المنحاز للذات ولإرادة الذات بدلاً من إرادة الحقيقة. إنهم ثلاثة كل منهم لا غنى عنه للآخرين: القانون والسلطة والحرية (حريتى مع حريات الآخرين)، القانون والحرية بدون السلطة لا يعنيان إلا الفوضى، والقانون والسلطة بدون الحرية إنما يعنيان الاستبداد، والسلطة بدون الحرية والقانون إنما تعنى وتؤدى إلى البربرية والاستبداد. فلنعمل فوراً فى مصرنا الغالية على إنجاز الثلاثة معاً، ومعهم بل قبلهم البناء والجدية والثقة، الثقة بالنفس، والثقة بأنه قائمة بيننا فعلاً وواقعاً وحدة وطنية متينة وراسخة، وبأننا شعب يستحق الديمقراطية، ولا خوف عليه منها، وهو قادر على اختيار الأفضل، مهما كان دينه ومهما كانت ثقافته ومهما كانت ثروته أو فقره، شعب أدار ظهره للديمقراطية عندما كانت وسيلة للاستبداد، وهو يقبل عليها مسرعاً عندما يرى النور... نور الحق والخير والجمال والعدل والمساواة ومحاكمة الظالمين، وقد حدث هذا فعلاً فى الأيام السابقة وبعد الثورة، هو شعب ذكى ويعرف بفطرته النقية معنى الوحدة الوطنية وضرورتها، ولم يعرف فى تاريخه كله، فتناً وتعصباً باسم الدين. شعب يدرك معنى (الجوار) ولقوله: فلان جارنا المسيحى، معنى وزخم طيب فى جهازه النفسى، عشنا على هذه المعانى فى ود وسلام سنوات طويلة... وفى الأيام الأخيرة يقف المسلمون والمسيحيون صفاً واحداً ضد الظلام وفى وجه مثيرى الفتن والشغب وأمام المعتدين على دور العبادة... رأينا تلاحم الشعب كله ضد ما سُمى الفتنة الطائفية... رأيناه على شاشات التلفاز منقولاً من القاهرة إمبابة تحديداً. أما البلدان الصغيرة التى لم يستطع الإجرام المدبر أو التدبير المجرم أن يصل إليها، فهى متماسكة متلاحمة إلى حد أن سمعت المسلمين والمسيحيين فى هذه البلاد وهم يتساءلون فى دهشة وفى بساطة: مين اللى عمل كل ده... ليه يعمل كده؟ طول عمرنا مع بعض. كنت فى أيام إمبابة فى أقصى الصعيد، فى بلدتى قوص... بلدة صغيرة من بلدان محافظة قنا، وسرت فى كل الشوارع، حتى وصلت إلى محلات الصاغة باعة الذهب وهم مسيحيون، وتوقفت أمام هدوئهم وشعورهم بالأمن والسلام وسط جيران كُثر مسلمين، وبين منازل ومحلات المسلمين، ولا حراسة غير التفافهم جميعاً حول عبق التاريخ، وحول معنى الجوار وقد تأصل فى دمائهم عبر مئات السنين... ألا يدل ذلك على أن شعبنا سوف يحترم الديمقراطية، لأنه شعب يحب الحق والعدل، وما حكاية الفلاح الفصيح راح يشكو الظلم ببعيدة وما قصة ابن القبطى راح يشكو فى المدينة مسافراً من صعيد مصر... يشكو فعل ابن الحاكم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه... ما هذه القصة أيضاً ببعيدة، لأن التاريخ كله قريب... ثم أليس الصبح بقريب؟ ومتى استمر وجود الظلام والفتن فى تاريخ مصر كله؟