الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان ليست مجرد جريمة جنائية ارتكبها فرد وتتم معاقبته عليها، إنها نتيجة سياسات وهياكل وقيم تسكن قلب النظام الحاكم ومن أجل التخلص منها يجب التعامل معها بجدية وبشكل جذرى، حيث إن الهدف ليس القصاص والعدل لأشخاص بعينهم فقط بل القضاء على أخطبوط الانتهاك ونزع سم العنف من المجتمع الذى تحول جزء منه إلى زبانية تسوم بقية المجتمع سوء العذاب. ضباط وجنود ومخبرو أمن الدولة هم جيراننا وأقرباؤنا ومصريون مثلنا وهناك حاجة إلى العقاب ولكن هناك ضرورة للفهم والمصالحة أيضا. فى الأرجنتين باشرت لجنة الحقيقة المستقلة عملها فى ديسمبر 1983 بعد رحيل النظام العسكرى (وهو رحيل محتوم سواء استمر الحكم العسكرى ست سنوات أم ستة عقود). ونقّبت اللجنة فى آلاف المستندات واستمعت إلى آلاف الشهود على مدى تسعة أشهر لتحقق فى مخالفات النظام العسكرى الديكتاتورى الذى ساد البلاد بين عامى 1976 و1983. فى هذه السنوات السبع أسفرت المواجهات بين النظام والمعارضة عن اختفاء منهجى وتعذيب وقتل آلاف الأشخاص. وتحت تأثير الأزمة الاقتصادية والهزيمة المريرة فى حرب الفوكلاند اضطر نظام الجنرال رينالدو بينيتو إلى إجراء انتخابات عامة نزيهة فاز بها راؤول ألفونسين الذى أنشأ لجنة الحقيقة فى الأسبوع الأول من منصبه وألغى الحصانة التى كان العسكر قد منحوها لأنفسهم. وكانت مهمة اللجنة التحقيق فى كل حالات الاختفاء القسرى فى سنوات الحكم العسكرى وتحديد موقع جثث الضحايا. وتألفت اللجنة من 13 عضوا، ثلاثة منهم عينهم الكونجرس. نشرت اللجنة تقريرها فى كتاب مطبوع وعلى الإنترنت وصدر فيلم وثائقى عن عملها (ويمكن مطالعة التقرير على الرابط http://web.archive.org/web/20031002040053/http://nuncamas.org/index2.htm) وتمكنت اللجنة من توثيق نحو تسعة آلاف حالة اختفاء من بين ما قد يصل إلى ثلاثين ألف حالة فى الفترة محل النظر. وحددت اللجنة الهياكل والممارسات المنظِّمة للاعتقال والتعذيب السرى والقتل والتخلص من الجثث فى مواقع غير معروفة. وتوصلت اللجنة إلى أن كل هذه الممارسات القمعية قامت بها المؤسسة العسكرية وخططت لها وفق أوامر من أعلى مستويات القيادة. والأوامر هنا لا تعنى أن كبار الجنرالات أرسلوا فاكسا إلى الزبانية لقتل أو تعذيب شخص بعينه ولكنهم كانوا يعرفون ويدعمون هذه الممارسات عموما. وأوصت لجنة الحقيقة بوضع برنامج تعويضات لعائلات الضحايا والناجين والملاحقة القضائية ومتابعة التحقيقات وإصلاح النظام القضائى ووضع دورات تثقيفية وتدريبية فى مجال حقوق الإنسان. وفى السنوات التالية تسبب التقرير فى عدة إجراءات رغم أن الجيش رفضه فى البداية. فإضافة إلى إصلاحات دستورية وقانونية وانضمام إلى معاهدات واتفاقات دولية تكرس احترام حقوق الإنسان، أدى التقرير إلى محاكمة وسجن خمسة جنرالات. ورغم ألاعيب تشريعية منعت ملاحقة باقى العسكريين عدة سنوات ومنها قرارات عفو برلمانية فإن النظام المدنى بعدما استقر فى عام 2003 ألغى كل قوانين العفو وجرت محاكمة 700 شخص تمت إدانة خمسين منهم وسجنهم حتى الآن. وتلقى ضحايا الاعتقال والتعذيب أو عائلاتهم ثلاثة مليارات دولار أمريكى تعويضات على الأقل. وقامت اللجنة بعملها كله دون جلسات استماع علنية ولكنها استخدمت شهادات من سبعة آلاف شخص منهم 1500 من الناجين. فى آخر ساعاتى فى زيارتى لبيونس إيريس ذهبت إلى قصر الرئاسة المفتوح معظم أجنحته للسياح. ترددت قبل دخول البيت الوردى (وهو الاسم الرسمى للقصر) متهيبا. بعد عبور أجهزة كشف الأسلحة والمعادن وجدت نفسى فى مدخل ضخم وفى صالتيه المتتابعتين تزدان الحوائط بصور كثيرة مؤطرة لجنرالات الثورة والتحرير على الاستعمار الإسبانى من أمثال سيمون بوليفار فى القرن التاسع عشر، والمناضلين من أمثال سلفادور الليندى وتشى جيفارا من القرن العشرين. لم أعتقد فى حياتى أننى سأرى صورة لجيفارا فى قصر رئاسى وهو يرتدى بذلة عسكرية جعلته أقرب إلى جنرالات التحرير. لم أر صورا للجنرال بينوشيه قاتل الليندى أو للجنرال بينيتو زعيم الطغمة العسكرية فى الأرجنتين. فى عالمنا العربى الآن وفى مصر خيار بسيط أمام جنرالات الجيوش والأمن وأين يريدون أن توضع صورهم فى المستقبل. سواء فعل جيلى هذا أو فعله أولادنا فلدينا خياران: الأول هو ظهور صور بعض هؤلاء الجنرالات فى قوائم سوداء داخل سجلات الحقيقة التى ستسطرها لجان مستقلة ونستطيع أن نضع نسخا منها فى نصب تذكارى لضحايا الانتهاكات يمكن أن نبنيه تحت أى كوبرى فى عواصم عربية عدة، والخيار الثانى هو أن تنتهى هذه الصور فى أطر فخمة وأنيقة محاطة بالإجلال والتقدير فى ساحة القصر الرئاسى يزورها الناس ويفخرون بها وبدور أصحابها فى إنهاء عصور التعذيب ومحاسبة المسؤولين عنها. إما تحت الكوبرى وإما داخل القصر. والخيار لكم.. ولنا أيضا من قبلكم وبعدكم.