وأسياد البلد هم أصحابها. هم الذين ضحوا بدمائهم وأرواحهم وقدموا ذويهم قرابين في حبها. هم من بذلوا نور أعينهم -حرفيا- كي تخرج مصر من النفق المظلم الذي قبعت فيه منذ عام 1977 حتى خرج «الولاد» باحثين عن «ست الحسن»، لا أولئك الذين استقبلوهم بالقنابل والرصاص. عنوان المقال «لا خاف ولا خف» مستعار من قصيدة الشاعر تميم البرغوثي «يا شعب مصر». يقول: «يجري الجريح من ورا لقدام لا خاف ولا خف، تدوس عليه العربية تحوله لميت ألف، يا للعجب يقتلوه ويتوقعوا هربه». لم أتعود الحديث نيابة عن أحد سوى نفسي، لكن اسمحوا لي أن أتحدث نيابة عن كل من نزل إلى الشوارع منذ صباح 25 يناير، واستمر في التظاهر والركض وحمل القتلى وإسعاف الجرحى والاعتصام، حتى يوم 11 فبراير. لا أتحدث هنا عن العشرين مليون مواطن، وهم إجمالي من شارك في الثورة المصرية من جميع المحافظات، وإنما أتحدث عن أولئك الذين نزلوا ولم يعودوا إلى بيوتهم حتى التنحي. عن جريح القلب السائر قدما «لا خاف ولا خف» أتحدث. ذلك الذي قرر أن يسلك طريق اللا عودة، إما أن يصل إلى الأميرة وإما أن يأكله الوحش. بالطبع لم أرصد بشكل شخصي تعداد هؤلاء، ومن المؤكد أنهم لا يقدرون بالملايين، ربما عشرات الآلاف، وقد تقدرهم بمئات الآلاف... العدد في الليمون، والحديث عن تعداد من اتخذوا قرارا واضحا، لا لبس فيه، بالنصر أو الشهادة يقزم شأنهم ويلخصهم في «رؤوس» مشاركة. لا آبه كثيرا لعدد الذين قضوا أيام 25 و26 و27 يناير يواجهون القنابل وبلطجية الداخلية، ويتفرقون في الشوارع الجانبية ليعيدوا تجميع أنفسهم، ثم يعودون للتظاهر مرة أخرى بهدف إنهاك قوات احتلال النظام البائد تمهيدا لجمعة الغضب، وسقط منهم من سقط بين قتيل وجريح، ثم عادوا لجمعة الغضب يقدمون أنفسهم وأعينهم قرابين، ثم استجابوا في ساعة العسرة ونزلوا إلى الشوارع بجراحهم يوم 29، ثم أمنوا البلاد يوم 30 يناير، ثم استمروا في الاعتصام، ثم قاتلوا في موقعة الجمل، ثم عادوا وقاتلوا في موقعة أخرى لا يذكرها أحد في 3 فبراير، وظلوا يذودون عن ثورتهم، ويدعون الناس للانضمام إليها، حتى وصل عدد الصارخين في شوارع المحروسة «ارحل.. إرحل» إلى 20 مليونا بكل محافظات مصر في يوم 11 فبراير وفقا لتقديرات القوات المسلحة المصرية. هؤلاء أقمار مصر وأشرافها وأطهارها، وقد وكلت نفسي، دون أن يطلب مني أحد، للحديث نيابة عنهم، وأعلم تمام العلم أنها جرأة لا أحسد عليها، وقد ألعن بسببها. «هم عايزين إيه؟». سؤال يضعه الإعلام المغرض، وبقايا النظام البائد على ألسنة عامة الناس، موجهين سهامهم إلى الغاضبين الرافعين أكفهم ضراعة: يا رب.. يا رب.. حنعلمهم الأدب.. حنوريهم الغضب. عايزين إيه؟ عايزين -كما تقول أطاطا- تعب وشقا اللي طفح الدم بتاع ابن بنت بنت بنت بنتي! يريدون عروسهم التي دفعوا مهرها من دمائهم وأرواح ذويهم وأعينهم وأعصابهم. ماذا تظن بأب أو أم أو أخت أو زوجة أو ابنة أو ابن فقدوا عزيزهم على يد قتلة ندفع لهم مرتباتهم من ضرائبنا؟ ترى.. «عايزين إيه؟»، ما قولك في شاب كان على وشك الزواج ففقد عينا أو أصيب بشلل وأنفق ما ادخره من أجل زواجه على علاجه؟ تعتقد.. «عايز إيه؟»، ما رأيك فيّ أنا التي مرت من جانبها رصاصة استقرت في صدر شاب كان يقف خلفها فوقع عليها وأغرقت دماؤه الزكية ملابسها وهي تخرج بطارية هاتفها المحمول وتعيد تركيبها ظنا منها أن ذلك سيعيد شبكة المحمول لتتصل بالإسعاف حتى فارق الحياة وهي تجلس بجوار رأسه مباشرة؟ تظن.. «أنا عايزة إيه؟»، كيف تراني وأنا أمسك بخناق أحد عساكر الأمن المركزي وأهزه: بتعمل كده ليه؟ بتعمل فينا كده ليه؟ إنت مصري.. بتعمل كده ليه؟ مجنونة.. أليس كذلك؟ قد أكون مجنونة لدرجة أنني أرى في سؤال «عايزين إيه؟» والحديث عن «عجلة الإنتاج» وعن «الوقيعة بين الشعب والشرطة» وعن «الحال الواقف» الكثير من النطاعة والسماجة والصفاقة والتناحة والسخافة، خصوصا في سياق الحديث عن دماء، وإصابات بدنية، ونفسية، ووجوه ملائكية لا تفارق مخيلة من شاهدها وهي تسلم الروح، وأمهات أسرّتهن شوك وقلوبهن نار. عايزين إيه؟ عايزينك تسكت يا من تسأل «عايزين إيه؟» وتنصت إلى تلاوة من آيات الدم الجليل، أم تريد للدم أن يعود صفر اليدين؟ يا للعجب! يقتلوه ويتوقعوا هربه