أتتنى سيدة فاضلة فى مقام المرحومة والدتى غاضبة عاتبة، تتهمنى، و«أمثالك» بالهجوم غير المبرر على رجال الشرطة بسبب إفراطهم فى استخدام القوة فى مواجهة المتظاهرين، وتصاعد الشكاوى مؤخرا من وقوع حالات للتعذيب وإساءة المعاملة، وظروف احتجاز مزرية فى أقسام الشرطة ومعسكرات الأمن المركزى، وحرمان من الحقوق الأساسية التى ضمنها الدستور الأخير الذى قمنا بالتصويت عليه فى 14 يناير، وذلك من دون الوضع فى الاعتبار حجم التضحيات التى يقوم ضباط وجنود الشرطة بتقديمها فى الحرب الدائرة حاليا ضد الإرهاب، وسقوط عدد كبير منهم شهداء ومصابين، وكثير منهم شباب صغير السن أيضا. ولم تكن هذه هى المرة الأولى بالطبع التى أواجه فيها هذا الاتهام، الذى يتم ترديده بشكل يومى فى وسائل الإعلام التى تؤيد استخدام كل وسائل القوة الممكنة لسحق المعارضين الذين يتم وصفهم بأعداء الوطن والخونة والعملاء وعبدة الدولار واليورو، وكلما تحدث طرف عن انتهاكات حقوق الإنسان يتورط فيها رجال الأمن، يكون الرد جاهزا معلبا: «وماذا عن شهداء الشرطة والجيش الذى يتساقطون يوميا فى سيناء والقاهرة والشرقية والمنصورة؟ لماذا لا تتحدث عن هؤلاء وحقوقهم؟» ولكن الاتهام كان مؤلما هذه المرة لأنه أتى من أم تدعو لابنها العزيز الضابط والجندى صباح كل يوم بأن يعود إليها سالما بعد أداء مهام عمله، وفيه إساءة فهم بالغة لموقف الأطراف التى تدعو إلى حماية أرواح كل المواطنين، ومنهم بالتأكيد رجال الشرطة والجيش، الذين يقفون فى صفوف المواجهة الأولى فى حرب حقيقية ضد منظمات إرهابية متشددة تستهين بأرواح البشر وتبرر قتل الأبرياء، كما يتولون حماية حدود الوطن مع الاستعداد للتضحية بأرواحهم للقيام بذلك. وحقيقة الأمر أن الهدف الذى يسعى إليه من يدافعون عن حقوق الإنسان وبناء الدولة المدنية الحديثة هو ألا يموت أى مواطن مصرى من الأساس، وأن يستمتع بالحياة كل شباب هذا الوطن لكى يسهموا فى بنائه وتقدمه. ونحن، كغالبية المصريين، لنا إخوة وأقارب وأصدقاء وزملاء وجيران يعملون فى الشرطة والجيش من المؤكد أننا نحزن لسقوطهم شهداء بالمئات منذ بدء المواجهات مع الجماعات الإرهابية على مدى الأشهر الثمانية الماضية. وبالتالى فإن الغضب والانتقاد يكون هنا موجها للقائمين على الحكم الذين تسبب فشلهم فى إدارة شؤون البلاد إلى هذه الحالة من التدهور واستمرار هدر الدماء، سواء من المدنيين أو الشرطة، على مدى ثمانية أشهر متواصلة. فمهمة أى نظام حكم هى خلْق الظروف التى تسمح لأفراد المجتمع بالتمتع بالحد الأدنى من التوافق الذى من شأنه عدم الوصول إلى وضع يتم فيه تسوية الخلافات باستخدام العنف وإراقة الدماء. وعندما خرج ملايين المصريين فى ثورتهم فى 25 يناير 2011، كان جزء كبير من غضبهم موجَّها نحو جهاز الأمن وذلك بعد أن استغله النظام المخلوع لضمان بقائه فى الحكم على مدى ثلاثين عام عبر تزوير الانتخابات وقمع المعارضين والسيطرة التامة على وسائل الإعلام، وتوسع الدور الذى كان يقوم به وتغوله. وكانت العلاقة بين المواطن ورجل الأمن تقوم على الشعور بالخوف لسهولة تلفيق الاتهامات وانتهاك أبسط قواعد القانون وسط شعور بالحماية من النظام الحاكم واستحالة توقيع أى عقوبات على المخالفين، بما فى ذلك من يثبت تورطهم فى عمليات تعذيب أو قتل للمواطنين. ولذلك كان مطلب إعادة هيكلة وزراة الداخلية وإصلاحها على رأس قائمة المطالب التى كان يرفعها المتظاهرون فى ميدان التحرير، وذلك من ضمن مطالب مماثلة بإصلاح مؤسسات أخرى تسبب فشلها وتمسكها بالفكر السلطوى القديم فى تدهور أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية واندلاع ثورة 25 يناير. فنحن نريد جهاز شرطة مدنيا دوره الأساسى الحفاظ على الأمن وحماية المواطنين، ولا نريد جهازا يتورط فى أعمال قمع وتعذيب أو قتل للمواطنين بسبب فشل الساسة والقائمين على الحكم فى الأساس. نريد تحسين الظروف المعيشية لجنود وضباط الشرطة وتوفير أجهزة حديثة ومعدات لحمايتهم والقيام بمهامهم فى مواجهة الإرهاب بدلا من الإصرار على التمسك بسياسات ثبت فشلها ولا تؤدى سوى إلى سقوط المزيد من القتلى فى صفوفهم. وبعد أن تتكرر أحداث التفجيرات والعمليات الإرهابية، ويتساقط عشرات الجنود والضباط قتلى سواء من الشرطة أو من القوات المسلحة، فلا بد أن هناك أخطاءً ما يتم ارتكابها، وأن هناك فشلا واضحا فى سياسات المواجهة الأمنية. وفى أعقاب كل حادثة هجوم كبير أو صغير تتعرض له القوى الأمنية، من الطبيعى أن تكون هناك إجراءات تحقيق ومحاسبة ودراسة لأسباب وكيفية وقوع هذه الحوادث لضمان عدم تكرارها. ولكن فى كل مرة، يخرج علينا المسؤولون نفسهم فى أجهزة الأمن ليصبوا جام غضبهم على الإرهاب أو الإرهابيين من دون أن نسمع عن محاسبة أحد، بداية بوزير الداخلية نفسه، عن أوجه التقصير والفشل التى تؤدى لتكرار وقوع هذه الحوادث بنفس الأساليب، سواء فى قنص الجنود والضباط فى الكمائن، أو فى استخدام السيارات المفخخة والقنابل البدائية. ولا شك أن احترام أجهزة الأمن لحقوق الإنسان وكرامته، وعدم استخدام حجة مكافحة الإرهاب لانتهاك حقوق المواطنين وإساءة معاملتهم واعتقالهم لفترات طويلة، من شأنه خلق البيئة المناسبة التى ستساعدهم على القيام بمهامهم وسط تأييد شعبى. لكن ما نراه فى الأشهر الأخيرة هو أن أجهزة الأمن عادت إلى نفس الممارسات المباركية، واتسعت دائرة المعتقلين لتشمل من لا صلة لهم مطلقا بجماعات الإسلام السياسى التى تتبنى العنف، بل كانوا فى مقدمة من خرجوا للمطالبة بالعودة لأهداف ثورة 25 يناير بعد أن فشلت جماعة الإخوان فى إدارة شؤون البلاد. الأصل هو أننا نريد حكومة قادرة على خلق الظروف التى لا يموت فيها أى مواطن مصرى، مدنى أو رجل شرطة أو جيش، فجميعهم دماؤهم غالية، ونحتسبهم جميعا عند الله شهداء.