«موسم صيد الزنجور» للروائى المغربى إسماعيل غزالى، ومن إصدار دار العين بالقاهرة، هى رواية مثيرة للاهتمام جدًّا ومحيّرة جدًّا، تتركنا فاغرى الأفواه على مدار 430 صفحة، خصوصًا المئة صفحة الأخيرة، التى أعتبرها، رغم ميلودراميتها العنيفة، كافية لجعل هذه الرواية واحدة من درر الأدب العربى الحديث. فرغم أن أحداث الرواية تدور فى منطقة جغرافية محدودة من بلاد المغرب، هى منطقة جبال الأطلس الأوسط، فإن غموض عنصر الزمن، يؤدّى إلى تداخل الشرائح الزمنية بين أحداث وقعت فى الزمن الحاضر، وأحداث أخرى وقعت قبل أربعين عامًا، تبدو كما لو كانت معاصرة للأحداث الحالية. الرواية فى الحقيقة هى ثلاث روايات تدور أحداث الواحدة منها داخل أحداث الأخرى. الرواية الأولى تحكى لنا قصة رجل من أم مغربية أمازيغية ومن أب فرنسى، يعيش فى مدينة (رانس) بإقليم الألزاس شرق فرنسا، مهنته الأصلية هى باحث فى علوم الرياضيات، إلا أنه كذلك عازف ماهر جدًّا على آلة النفخ النحاسية الساكسوفون، وقد أحب الموسيقى لأن أباه كان عازفًا شهيرًا للكمان، وكان جدّه كذلك عازفًا شهيرًا للبيانو، وكانا يستعينان بالموسيقى فى مقاومة الأرواح الشريرة التى سكنت منزلهما فى (رانس). وقد نجح الأب والجد فى جعله يحب الموسيقى، إلا أنه لم يتخذها مهنة لنفسه. قصة عثوره على آلته الساكسوفون فى مياه بحيرة مدينته الفرنسية (رانس) يزيد من غموض هذه الآلة، التى تبدو لنا أحيانًا قادرة فى أثناء العزف عليها، على الإتيان بأفعال سحرية، لا نعرف إن كانت بفضل قوة الآلة، أم بفضل قوة العازف، كأن تتحول البحيرة الأطلسية إلى كريستال شفاف، يمكن من خلاله رؤية قاع البحيرة الواقع على بعد 150 مترًا، وبالتالى تحديد موقع إمبراطور الزناجير وتسهيل صيده. الفرنسى/المغربى يحضر إلى المغرب لأول مرة فى حياته بدعوة من صديقة مغربية، تقابل معها فى واحد من مهرجانات الفنون المتوسطية، ومن المفروض أن يلتقيا على ضفاف البحيرة التى تقع فى منطقة جبال أطلس الوسطى، وهى بحيرة مشهورة بسمك الزنجور. الوقت الذى تتم فيه الزيارة هو موسم صيد هذا السمك. كان الفرنسى/المغربى الذى لا نعرف اسمه قد قال فى نفسه قبل مجيئه إنها قد تكون فرصة للبحث عن أسرة والدته التى كانت تقيم بالقرب من هذه البحيرة، وهى الأسرة التى كان لا يعرف أى فرد فيها، وذلك لأن الوالدة كانت قد ماتت فى فرنسا فى أثناء مخاض مولده. صديقته المغربية لا تظهر فى الموعد المحدّد لظهورها، فيقع بسهولة فى غرام فرجينيا، وهى سيدة خلاسية مختلطة النسب مثله، والرواية الثانية تدور على لسانها. كان والدها البريطانى قد تعرّف على والدتها الإماراتية فى أثناء عمله فى الخليج. تقول إنها جاءت إلى البحيرة لتبحث عن كنز يخصّ والدها عبارة عن لؤلؤة سوداء نادرة المثال، كانت قد سرقت منه، وتم إخفاؤها فى قاع مياه البحيرة. تختلط علينا المسائل عندما يقول البعض إن الكنز فى قاع البحيرة هو بيانو أثرى، والبعض الآخر إن الكنز هو حجر سقط من كوكب المريخ. يظهر أشخاص آخرون على ضفاف البحيرة، منهم أسرة أمازيغية تقيم فى خيمة يتنقلون بها بين قمة الجبل وسفحه، حسب مواسم صيد الأسماك فى الصيف والشتاء، يعمل عائلها الستينى فى رعى الغنم، فى حين تعمل زوجته الأربعينية فى إعداد مشروبات ومأكولات للسياح المقيمين فى خيام وفى سيارات إقامة متنقلة (كارافان) حول ضفاف البحيرة، ولديهما فتاة صبية فى الثالثة عشرة تساعد والدتها، وصبى فى العاشرة يساعد والده. الصبى يصنع آلات كمان من القصدير ومن شعر ذيل الخيول، يحطّمها له والده دائمًا، لأنه يريده أن يصبح راعيًا للأغنام مثله، ولا يصدّق قصة أن يصبح عازفًا شهيرًا للكمان. أما الفتاة فتتميّز بصوت ساحر فاتن، وقد حدث ذات مرة أن غنّت على ضفاف البحيرة فتجمّدت مياهها على الفور، كأن صوتها يجلب الكوارث، فمنعها أبوها بعد ذلك من الغناء. أجمل ما فى الرواية هى المئة صفحة الأخيرة، التى تحمل عنوانًا جانبيًّا للرواية الثالثة داخل الرواية الأصلية، والعنوان هو (طريق أزغار)، أو الطريق إلى المدينة. إذ يحدث أن تموت السيدة الأربعينية، فيقرر الأب أن ينتقل مع أسرته الصغيرة إلى المدينة، التى له على أطرافها صديق قديم. فى أثناء الرحلة يستولى رجل الشرطة عنوة على خيمتهم، ويسرق قطاع الطرق قطيع الأغنام، ولا يجد الأب الستينى إلا أن يهب ابنته الصبية إلى شيخ قبيلة أمازيغية، يمكنهم أن يقيموا فى حماها. إلا أنهم قبل الوصول إلى المدينة تتعرض الصبية إلى الاغتصاب، فتهرب من والدها خوفًا منه، ويهرب الصبى هو كذلك بدافع من تحقيق حلمه. تنجو الصبية بأعجوبة من الوقوع فى براثن قوّادة تمتلك بيت دعارة، وتنقذها الأقدار بالعمل مربية فى ملجأ أيتام. تلتقى بأخيها فى نهاية الرواية وقد حقّق حلمه وأصبح فعلًا عازفًا شهيرًا للكمان. لا شك فى أنه تنبغى الإشارة إلى اللغة التى يستعملها إسماعيل الغزالى، فهناك الكثير من المفردات الغرائبية التى يستعملها بقدر كبير من التمكّن من اللغة العربية، ولن أذكر هنا إلا بعض النماذج، مثلًا يقول (يسرنم) بدلًا من أن يقول (يسير مرنمًا)، ويستعمل الكثير من أسماء أسماك المياه العذبة والمياه المالحة، ومن بينها طبعًا الزنجور، الذى يضع له وصفًا دقيقًا لشكله الخارجى، ولتصرفاته الغريبة مع كائنات البحيرة، التى كان يتعامل معها كأنه إمبراطور متوّج على عرشها. كذلك هناك العشرات من أسماء نباتات وحيوانات جبال الأطلس الأوسط، خصوصًا أنواع من الزواحف صغيرة الحجم التى تظهر فى الكثير من لوحات الرواية بعيونها الجاحظة حين تتوتّر أطرافها من القلق على الأشخاص كأنها تتابع الأحداث. بالإضافة إلى الكثير من الإحالات الثقافية من نوع (سهرة البجع) عندما تغزو أسراب البجع الأحمر مياه البحيرة، إشارة إلى باليه بحيرة البجع لتشايكوفسكى، و(القارب السكران) عندما يقضى الليلة مع فرجينيا فى قارب على مياه البحيرة، يشربان النبيذ ويمارسان الحب، إشارة إلى قصيدة للشاعر الفرنسى (أرتور رانبو).