وعى الإنسان بالفنون يسبق وعيه بالواقع، ولعل ذلك هو ما يجعل الطفل يردد أغنية ما بسعادة أو يتابع مشدودا صورا متحركة أو يجلس بالساعات لسماع الحكايات، والحكايات تجذب الطفل لما تحمله من خيال، ففى الحكايات فقط يتكلم الفيل، وتصارع البطة أسدًا ويطير السمك فى الهواء، والطفل نموذج مُصغر للإنسان الذى استطاع بمخيلته أن يخلق عوالم أخرى موازية لعالمه الحقيقى، وربما يكون الإنسان الأول قد اكتشف الحكايات قبل اكتشافه للنار، فالحكاية هى أقدم الفنون على الإطلاق، وقد ساعدت الإنسان البدائى فى رحلة الاكتشاف والتعامل مع البيئة المحيطة، فالإنسان الذى وجد نفسه وحيدا أمام قوة خفية كالموت وقوى مرئية كالطبيعة بكل قسوتها وجبروتها وسطوتها عليه لم يجد سوى نسج القصص والحكايات عنها، وتطورت تلك الحكايات مع تطور اللغة واكتشاف الزراعة. والزراعة هى أول مهنة أجبرت الإنسان على الوقوف أمام الطبيعة بكامل معطياتها، فتعامل مع الأرض وسخّر الحيوانات وراقب السحاب انتظارا للمطر، وفى رحلته تلك بدأت الطبيعة تعلن هى الأخرى عن نفوذها، وعن قدرتها على البناء والهدم، والغرق والجفاف، فلجأ الإنسان، بعد أن فقد كل حيله، إلى الحكايات مرة أخرى ثم تحولت تلك الحكايات إلى أساطير، ومع مرور الوقت نسى الإنسان أنه صانع تلك الأساطير، وأنها مجرد حكايات تم خلقها من عقل ما، وراح عقله يجسدها ويرى للشخصيات التى صنعها من خياله وجودا مؤثرا فى واقعه المعايش، وبدافع خوفه الفطرى فقد القدرة على الفصل بين ما هو خيالى وما هو واقعى، فقدم القرابين للنهر والسماء والأرض، ووضع الدُّمى لطرد الأرواح الشريرة، وأكل قلب عدوه حيًّا ليستولى على روحه، وظن أن المحرك الخفى للكون هو قوة شريرة ترغب فى تدميره، وظهر السحر فى حياة الإنسان استكمالا لرحلة الحكايات، وتفنن السحرة فى عملهم، ودعموا وجودهم بالحكايات أيضا، ومال الناس للتصديق بسبب خوفهم الدائم، وانكبوا على أكواخ السحرة حاملين القرابين والهدايا، فظهرت طائفة أخرى فى المشهد، وهم الكهنة الذين استطاعوا أن ينسجوا حكايات أعظم عن الكون والإنسان وعوالم غيبية شديدة الثراء كالعالم الفوقى، والتف الناس حول الكهنة وحكاياتهم عن الآلهة التى تدير العالم من السماء، وعن إله البحر وإله المطر وإله الرياح، واختار الناس ما يناسبهم من الآلهة، فللمحارب إلهه، وللمزارع إلهه، وللصياد إلهه، وأعلن الكهنة عن رفضهم للسحر، المنافس القديم، فحرقوا السحرة وحرقوا كتبهم فى هجمات شرسة امتدت لمئات السنين، وتصالح الناس مع القوى الفوقية، وقد عرفوا أن الآلهة جاءت لخدمتهم ورعايتهم لا لتدميرهم كما أفهمهم السحرة، وبدأت الحكايات تشمل حياة الإنسان، وتتحول إلى عادات وطقوس ورسومات على المعابد، وتباهى كل فرد بحكاية إلهه، فى تلك الفترة ظهر الحاكم الذى يستمد حكمه من السماء، فهو إما إله أو نصف إله، والناس صدقوا كالعادة، بل ورحبوا بكون أن هذا الذى فى السماء يخصهم هم بشكل شخصى، ولا أحد ينسى ما فعلته كليوباترا بالشعب المصرى حين ادعت أن النطفة التى تتكون فى بطنها هى نطفة الإله، وقد فرح الشعب المصرى وابتهج لهذه الأكذوبة. وهكذا تحولت الحكايات من قصص خيالية إلى واقع حقيقى يُحرم على الجميع مناقشته.. والحكاية فن خرج منه المثل والعبرة والنكتة، وهى الحكايات الأقل سطوة من الحكايات التى أنشأت الديانات والمعتقدات المختلفة، فما من دين أو عقيدة على مر العصور إلا واستفاد.. بل واعتمد بشكل كلى على الحكايات، فالحكايات هى عواميد الأساس فى أى عقيدة أو دين.. أما المثل والعبرة والنكتة نتاج آخر، قد يكون هدفه المتعة والتعلم وتمضية الوقت. والحكاية بنت ثقافتها، فلكل مجتمع، مهما كان هذا المجتمع متحضرا أو متخلفا، حكاياته وأساطيره الخاصة جدا، فالبلاد التى تعيش على ضفاف النهر تخشى من النداهة وعروسة البحر، والبلاد التى تعيش فى الثلوج تحكى عن بابا نويل ورجل الثلج، وهذه تخاف من دراكولا، وفى إفريقيا نجد أساطير أخرى ومخاوف أخرى. والحكاية، كما كانت قديما ترد على أسئلة مبهمة لا إجابات لها، فهى، لا تزال تعمل على ذلك حتى يومنا هذا، فمريض الفصال: مخاوى، ومن أصابه هلاوس بصرية: ملبوس، ومن أصابه هلاوس سمعية: يتكلم مع قرينه، ومن أصابه الصرع: تسكنه روح شريرة، وهكذا.. ولا يمكننا أن نتغاضى عن يقين الناس فى الحكايات والأساطير حتى وقتنا هذا. والحكاية كفن أنتجت السيرة والمسرح والروايات والسينما.. وليس من المستغرب الآن، بعدما عرفنا تاريخ الإنسان الطويل مع الحكاية، أن نرى ملايين البشر فى كل بقعة من العالم وقد تكدسوا أمام شاشات التليفزيون وأمام صالات العرض السينمائى أو بداخل المكتبات العامة والخاصة، فالإنسان الحديث الذى تطور كثيرا واستطاع أن يقهر الطبيعة والظروف، ويسخر العالم بمن عليه لخدمته لم يتوقف عن إنتاج الحكايات. وإذا كان الحكّاء الجيد قديما قد استطاع بموهبته وصنعته أن يأخذ الإنسان إلى مجرى آخر، وأن يستغله، وأن يفرض لنفسه سطوة عليه، فالحكّاء الجيد اليوم هو ما يدفع بالإنسانية إلى الأمام، ويساعد الناس على هدم أصنامهم، وعلى إمتاعهم وإسعادهم.