السؤال الذى طرحته على نفسى عند البدء فى قراءة رواية طلال فيصل «سرور» هو: هل كان سرور مجنونا أم مظلوما؟ الإجابة عن هذا السؤال هى: اختلاف الروايات باختلاف الأشخاص. يعتبر أكثر المنصفين لنجيب سرور فى هذا العمل، هو الطبيب «جلال الساعى» الذى كان شابا فى الرابعة والعشرين من عمره عندما عمل فى مستشفى العباسية سنة 1969. كان هذا الطبيب يعرف قيمة سرور الفنية والأدبية، فنقله على مسؤوليته الخاصة، فور تسلمه العمل، من قسم الحالات الخطرة الذى كانوا يسمّونه الدرجة الرابعة، ويحجزون فيه سرور مع آخرين، نقله إلى حجرة الأطباء، وإلى مطعم الأطباء، بل إنهما ذات أمسية خرجا سويا لزيارة الممثل زين العشماوى فى شقته بالزمالك، حيث حضر عدد من الفنانين والأدباء الذين يبقى منهم بعضهم على قيد الحياة حتى الآن. نجح جلال الساعى فى النهاية فى إخراج نجيب سرور من المستشفى، بأن حصل له على توقيع استشارى بالموافقة على الخروج، ولن يعود إليه بعد ذلك، بل سيدخل مستشفى نفسى آخر فى المعمورة بالإسكندرية. يعتقد هذا الطبيب أنه لم تكن هناك مؤامرة سياسية مباشرة من المخابرات أو غيرها لإسكات الرجل، لكن كانت هناك منظومة اجتماعية قائمة على إقصاء المبدعين، والتخلّص من كل شخص مختلف عن القطيع، خصوصا فى ذلك المناخ المتشائم السائد فى البلاد بعد هزيمة يونيو. هذا الطبيب يكتب فى مذكراته لاحقا (دولة تعيسة تحاصر المبدع رقابيا واقتصاديا ومعنويا، وتهينه حتى ينهار، ثم تلقى به فى مصحّة الأمراض العقلية دون رعاية ودون فهم). أما ثانى الشخصيات الأكثر إنصافا لسرور فهى زوجته الروسية ساشا. وكان سرور قد حصل سنة 1959، فى السابعة والعشرين من عمره، على بعثة لدراسة المسرح فى روسيا، وهو ما يتناقض مع نظرية اضطهاد السلطات التى أشاعها سرور. هناك التقى مع ساشا وتزوجها سنة 1961، وأنجب منها ابنه الأول شهدى سنة 1962. تقول ساشا إنه لم يكن أبدا مدمنا للخمر، وأنه لم يكن يشرب إلا البيرة، وأن تليف الكبد الذى مات بسببه سنة 1978 هو بسبب بلهارسيا قديمة (وهو نفس رأى طبيب مستشفى المعمورة). إلا أنه فى أثناء حضوره أحد المؤتمرات سنة 1963، صعد إلى المنصة وهاجم نظام عبد الناصر الديكتاتورى، فسحبت منه البعثة. وجد وظيفة مؤقتة لمدة بضعة أشهر فى إذاعة المجر، عاد بعدها إلى مصر سنة 1964، حيث تم تعيينه مخرجا مسرحيا، ومدرسا فى معهد الفنون المسرحية. وقد استمر فى العمل وفى نشر مقالاته النقدية فى صحف ومجلات تلك الفترة حتى سنة 1969. هذه السنوات الخمس تعتبر أكثر فترات حياته خصبا وإنتاجا فنيا. فمن مسرحياته الشعرية نجد «منين أجيب ناس» و«ياسين وبهية» و«قولوا لعين الشمس»، ومن كتبه هناك «هكذا تكلم جحا» و«بروتوكولات حكماء ريش» و«حوار حول المسرح». يعتقد كثيرون أن نكسة يونيو 1967 هى من أسباب اضطرابه. لكن السبب الأكثر أهمية هو اعتقاده فى خيانة زوجته له. وقد وصل به الحال فى نهايات حياته إلى الاعتقاد بأنها كانت منذ البداية مدسوسة عليه، حتى تتزوجه أولا ثم تخونه ثانيا مع أكبر عدد من الرجال، فيؤدّى ذلك إلى تحطيمه نفسيا بالكامل. كان سرور شخصا صداميا، يعانى من وسواس تآمر الآخرين عليه، أى بارانويا الاضطهاد، وكانت ردود أفعاله دائما مبالغا فيها جدا. استقال من المسرح، ثم طلق زوجته، وانتهى به الحال سنة 1969 إلى التشرد فى الشوارع بملابس ممزقة ولحية كثيفة. وقد التقى ذات يوم وهو على هذا الحال، بالناقد رجاء النقاش، الذى اقتاده إلى قسم شرطة الجيزة، حيث تم تحويله إلى مستشفى العباسية للأمراض العقلية.