ثم موقف آخر لا ينسى... أتمّ جولتى الصباحية فى العنابر. أحضر المرور وأنتهى من بعض التفاصيل الأخرى، ثم أنطلق ذاهبا لاصطحاب الأستاذ (نجيب سرور) للغداء فى مطعم الأطباء قبل أن ننطلق للسكن، وأغادره للبيت كعادتى حين لا يكون عندى نوبتجية ليلية. أبصر شخصا مهيبا قادما عبر ممر القسم، نحو غرفة الطبيب المقيم، ولا أحتاج وقتا حتى أتعرف عليه، وهو ملء السمع والبصر. أبتسم له محييا، وأمدّ يدى مصافحا: - أهلا وسهلا. أهلا وسهلا، ازىّ حضرتك يا أستاذ نجيب. نجيب محفوظ لدينا فى مستشفى العباسية! هل أنا بحاجة إلى ذكاء خارق لأعرف لماذا جاء؟ أو بالأدق، جاء ليزور مَن؟ ■ ■ ■ حين أتذكر تلك الزيارة الآن بعد كل هذه السنوات، وأرى مؤلفات نجيب محفوظ وهى تعلو وتعلو ليصير القمة الأكبر فى أدبنا العربى المعاصر، حتى إن اسمه دائما يأتى فى قائمة الترشيحات لجائزة نوبل الشهيرة (والتى أشك أن يمنحوها له، ليس تقليلا من شأنه، ولكن لأنهم لن يمنحوها لعربىّ مهما كان ومهما علا كعبه فى الأدب). حين أتذكر تلك الزيارة وأتذكر رد فعل نجيب سرور عليها وتعليقه بعد ذلك أجدنى متحيرا بين أمرين، بين محفوظ الذى يواصل الإنتاج بكفاءة واقتدار. أصدر من شهور قلائل رواية ضخمة بعنوان «ليالى ألف ليلة» غاية فى الإبداع والعظمة، وبين نجيب سرور الذى احترق فى سماء الإبداع والوطن بسرعة وعنف مثل شهاب ساطع. أقارن بين طبيعة الحياة المختلفة -بل والمتناقضة- للشخصين. أتذكر ما يعرف فى الأدب الفرنسى بالأديب الثعلب والأديب الذئب. محفوظ ثعلب بامتياز، لكن ثعلبيته هذه مكنته من مواصلة الإنتاج والكتابة بخلاف الأديب الذئب، الصدامى الصريح الحاد. وقتها، قال سرور إن محفوظ لم يأت ليزوره، ولكن ليدون ما سيشاهده فى أرشيفه الشخصى تمهيدا للكتابة عنه بعد ذلك! توقعت أن أقرأ لمحفوظ نصا عن سرور، فى رواية المرايا مثلا، لكنه لم يفعل، وربما يكون قد أفاد منه فى شخصية ما أخرى فى إحدى رواياته، رغم أنى قرأت كل إنتاجه تقريبا. الأصل فى طبيب النفس أن لا يتحيز وأن يعامل وجهات النظر جميعها بحياد، لكنى أجدنى -بحكم العاطفة والعشرة- متحيزا لنجيب سرور وصدقه وسخونته ووضوحه الصارم فى التعبير عن مواقفه حتى لو كلفته تلك المواقف ما كلفته، وأجدنى كذلك معجبا بنجيب محفوظ وبدأبه وإخلاصه لفنه، حتى وإن كانت نظرتى له الآن مشوبة بذلك الرأى ال«سرورىّ» فيه. أذكر أنى تناقشت مع محفوظ وقتها فى عدة أشياء، ووجدت معارفه المتعلقة بالطب النفسى مدهشة جدا. سألنى بالتفصيل عن حالة سرور، وبدا مخلصا فى الرغبة فى الاطمئنان على صديقه. تحادثنا فى رواياته الجديدة وفى الموقف السياسى، ثم عاتبته بشأن ما كتبه فى رواية الشحاذ حين قال الطبيب ل«عمر الحمزاوى»، شخصية الرواية الرئيسية: لا طب نفسى ولا دياولو. ضحك ضحكته العالية الشهيرة قائلا: حقك علىّ يا دكتور. الطب النفسى على عينى وراسى. لكن الكلام هنا للشخصية وليس لى، فلا تعاتبنى. ثم استأذننى فى إمكانية رؤية نجيب سرور. أكدت له أنه بخير وأنه يقيم معى فى سكن الأطباء، تمهيدا للعثور على طريقة لخروجه. نتوجه معا لرؤيته. نعبر الفناء الشاسع الأجرد، وحين يلتقيان، ينظر له سرور طويلا ولا يعلق. أشعر بحرج مكتوم فأستأذن، حريصا أن يكون موقعى منهما غير بعيد، فأسمع تلك المحادثة، وأدونها، وأحفظها فى أوراق تستقر معى كل هذه السنوات لأنقل منها الآن. كم يبدو دبيب الزمن مسموعا بوضوح فى هذه اللحظات. ■ ■ ■ يقطع محفوظ الصمت، مبادرا: - ازيك يا نجيب؟ - ازيك انت يا أستاذ. استقريت على التناول؟ يجيب محفوظ مبتسما: - أى تناول؟ - التناول الذى ستقدم به شخصيتى. ألم تأتِ إلى هنا بغرض جمع المعلومات وأرشفتها، أيها الموظف المخلص، لإنهاء الشكل الذى ستتناول به شخصيتى عندما تقدمنى فى إحدى رواياتك. - ربما. ألم تقدم أنت نفسك تناولا مسرحيا عظيما لروايتى «ميرامار»؟ - وكتبت عنك قبلها كتابا كاملا، فكان رد الجميل خيانة سيادتك.. - أعوذ بالله. - هل نمتَ مع مشيرة؟ - هل يفيدك جوابى لو أجبتُ. - هل رأيت كيف كانت تنظر لك حين ذلك اليوم، فى المسرح، حين جئت لرؤية العرض؟ - لماذا تصر على الاستسلام للهزيمة بهذا الشكل؟ - على كل حال، لا فرق، وكما يقول دونالد فينكل «لا تصدق هذا الرجل، إنه منظم» هل تعرف دونالد فينكل؟ - ولكنك تصدقنى يا نجيب... - قلت لك، لم يعد هناك فرق. سواء كنت ممن ناموا معها أم لا. البلد كلها، وليس مشيرة فقط (...) فى خمسة يونيو، بل ومن قبلها. لا فرق يا عزيزى. المهم، ألا تزال تنتج بحماسك ودأبك المعهود؟ - متى ستعود أنت لحماسك ودأبك المعهود؟ للحظةٍ، سيطر علىّ شعورٌ وقتها وأنا أستمع إليهما أن ذلك الحوار مكتوبٌ سلفا، وأنهما لا يفعلان شيئا سوى استعادته شفويا بعد أن استظهراه معا. كانت حالة التناغم بينهما فى الكلام غريبة، كأنهما لم يفترقا سوى بالأمس. ينتقلان بخفة بين السياسة والأدب والحديث الشخصى، فلا ينقطع الحوار لحظة، كأنه محاورة فى مسرح مُعد خصيصا لهذين المبدعين العظيمين. لا يطول حديثهما، أتذكر بوضوح، يقدم سرور تحليلا سياسيا مدهشا للوضع فيقول عن عبد الناصر: - مغفل، وسيدسون له من سيقتله غفلة عما قريب. والأدهى أنهم سيأتون بعده بمن سيجعلنا نترحم عليه. أليس هذا هو ما حدث بالضبط بعد ذلك، بل ويقول أيضا، تذكر أننا كنا عام 69: - ستأخذ المؤامرة شكلا آخر، اليهود والماسون لن يتركونا فى حالنا، ربما نفوز فى جولة أو أخرى، لكن ابصق على ذقنى لو لم نجدهم جالسين هنا بيننا عما قريب. ما هذه البصيرة المدهشة والموجعة، إنه يصف بالضبط كامب ديفيد وما سيحدث بعدها. لا يتكلم محفوظ أغلب الوقت، يستمع بإنصات. يثير سرور موضوع أبو العلاء المعرى ويشرح وجهة نظره المتعلقة بالكتيبة الخرساء، هل يبدو على محفوظ شىء من الاستخفاف، لا أدرى، لكنه يقول: - ولكن أبا العلاء اعتزل الدنيا وتفرغ لفنه. أبو العلاء لم يصطدم لا بالسلطة ولا بالناس؛ ترك آراءه حبيسة شعره. كان فنّه فى المنزلة الأولى دائما قبل كل شىء وبعد كل شىء. فمتى تعود أنت للمسرح، الفن الذى خلقت من أجله؟ ونفاجأ برد فعل الراحل العظيم. ينتفض ويغضب ويبدأ فى الزعيق بصوت مرتفع. أهرعُ إليه، على أثر صوته العالى، فأجد محفوظ واقفا، ثابتا، وإن كان يبدو عليه بعض الحرج. يشير بيده علامة السلام ويصافحنى، وهو يردد: - بركة انك بخير يا نجيب. شدة وتزول. ثم ينصرف فى هدوء مخلفا وراءه ذكرى ماثلة، وعلامات استفهام بلا نهاية! مجتزأ من رواية «سرور» تصدر آخر هذا الشهر عن دار الكتب خان، والتى تدور حول الشاعر والمسرحى الراحل نجيب سرور، والفترة التى قضاها بمصحة العباسية عام 1969.