اليوم يوافق الذكرى المشؤومة لحادث قتل ٣٨ إنسانا بدم بارد بأبشع طرق القتل التي وصم بها التاريخ الأنظمة القمعية الفاشية الجبارة مثل النظام النازي٠٠٠ اليوم تبوأنا مكانتنا المستحقة وسط أقراننا من السفاحين والقتلة وأزهقنا روح ٣٨ إنسانا خنقًا بالغاز داخل عربة ترحيلات مغلقة تُرك فيها الضحايا يختنقون بعد ضربهم بقنبلة غاز حتى فاضت أرواحهم بطريقة قريبة للغاية من الطريقة التي كان النظام النازي يخنق بها أعداءه.... تمر الذكرى المشؤومة بينما يعرض في صالات السينما فيلم يستحضر هذه المذبحة البشعة اسمه (اشتباك)... الفيلم مصنوع بحرفية عالية و(متعوب عليه) وواضح أيضا من الإمكانيات أنه مصروف عليه مبالغ كبيرة، لدرجة أنك تحس ومن اللحظة الأولى أنك أمام فيلم هوليوودي من إنتاج كبرى الشركات العالمية وليس فيلما مصريا من إنتاج فرد أو مجموعة أفراد! شاهدت الفيلم منذ فترة وكنت أريد أن أكتب عنه لكنني ترددت حتى جاء اليوم محملا بذكرى المقتلة الحقيقية فوجدت نفسي أكتب بدون أي ترتيب سابق، ومع تقديري لما قاله صناع الفيلم من أنه لا علاقة له بالحادثة المشؤومة ولكنه فقط يستلهم أجواءها إلا أنني أرى هذا الفيلم وبمنتهي الوضوح في منتهى الخطورة على التاريخ وعلى حقيقة ما حدث في هذا اليوم المشؤوم. نحن شعب لا يقرأ وتزوير التاريخ حرفة برعنا فيها منذ أيام الفراعين حين كان كل ملك يكسر خراطيش ومسلات من سبقه من ملوك وينسبها لنفسه حتى إن أي دراسة منصفة لحقيقة ما حدث في تاريخنا المعاصر أو القديم تعد دراسة بها من احتمالات الخطأ أكثر بكثير من احتمالات الصواب... نحن نختلف على أحداث قريبة وأحداث بعيدة وتاريخنا يكتبه الأقوى وليس الأصدق، ثم جاءت السينما بسحرها وقدرتها العظيمة على الوهم فبرعت في تزوير هذا التاريخ حتى أصبح (عيسى العوام) أهم قادة (صلاح الدين الأيوبي) وهو ليس كذلك والأهم أنه أصبح مسيحيا وهو أيضا ليس كذلك وأصبح مشهد (على) وهو ينقذ (إنجي) من قبضة (البرنس علاء) ويقتله في فيلم (رد قلبي) هو ملخص القضاء على الحكم الملكي الفاسد في مصر وتحررها من الظلم والاستعباد (هكذا) وتلخصت حرب الاستنزاف والسادس من أكتوبر العظيمة في مشاهد محفوظة ل(محمود ياسين) وهو يعبر القناة ثم وهو يساعد ابنة عمه بعدها في عبور (الترعة) في فيلم المناسبات الذي لا يموت (الرصاصة لا تزال في جيبي). نعم، السينما ساحرة لكن المؤكد أنها تزوِّر التاريخ بالذات لدى شعوبنا التي لا تقرأ ولا تزور المتاحف... السينما تزور التاريخ وخاصة السينما المصنوعة بحرفية جيدة ولهذا فأنا أرى (اشتباك) فيلما خطيرا على التاريخ والوعي المعاصر... فيلم مثل هذا سوف يعيش عشرات السنين وسوف يكون فيلم المناسبات المفضل لتذكر هذه الفترة المضطربة من تاريخنا، لأنه أولا مصنوع بذكاء وحرفية وفيه كل المقومات التي يعشقها الجماهير من شخصيات مركبة ومواقف إنسانية عميقة حتى قصص الحب داخل عربة الموت لم يغفلها الفيلم ثم إنه ثانيا يروي القصة بطريقة تتناسب تماما مع ما يريده النظام (كلنا أخطأنا وكلنا نستحق ما جرى!). سوف يعرض (اشتباك) عشرات المرات في السنين القادمة وسوف يحقق هدفه الذي أتصور أن من صنعوه يعرفونه جيدا... سوف يعرض كثيرا ومع كل مرة يعرض فيها سوف يمحو جزءًا من حقيقة ما حدث في سيارة الترحيلات الحقيقية. سوف يعرض (اشتباك) كثيرًا ومع كل مرة يُعرض فيها سوف تُستبدل في وعي الناس بالقصة الحقيقية القصةُ المصنوعةُ حتى لن يبقى من ذكرى ال٣٨ مقتولا إلا أرقام وأسماء مهملة مكتوبة في دفاتر مشرحة زينهم لا يتذكرها أحد... أما حقيقة هؤلاء المقتولين.. من هم؟ ماذا كانوا؟ والأهم: لماذا قُتلوا؟ فسوف يستبدلها خيال الفيلم المصنوع في وجدان الجماهير رويدًا رويدًا حتى لن يبقى من الحقيقة أي شيء.