يجلس وحيدًا خلف مكتبه، بينه وبين كبار قادة الدولة من العسكريين والمدنيين مساحة اعتاد على تركها القياصرة.. هناك في صالة سان بطرسبرج بقصر الكريملين، يجلس الرئيس فلاديمير بوتين متحدثًا عن حصاد التدخل العسكري الروسي في سوريا. في 17 مرة ذكر القيصر أنه خلال شهر فبراير الماضي تمكنت روسيا "بالتعاون مع الولاياتالمتحدةالأمريكية"، ضمن إطار التعاون المثمر مع الجانب الأمريكي، وهو ما يطرح سؤالًا منطقيًا: هل عادت السيادة الأمريكية-الروسية المشتركة على المنطقة؟ بحسب بعض المراقبين، فإنه يمكن اعتبار ذلك تلاقي مصالح بين موسكووواشنطن ليس في سوريا فقط ولكن في العراق أيضًا، حيث يسعى الرجلان لإرساء الاستقرار، ومكافحة ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية، حتى إن كان ما يفعلانه يثير سخط حلفائهما الإقليميين. ووفقًا لحديث بوتين عن فبراير تحديدًا، ففي الأول من ذلك الشهر مارست واشنطنوموسكو ضغوطًا على الأطراف المتصارعة في سوريا من أجل التوقيع على هدنة استُبعد منها تنظيم داعش وجبهة النصرة، بعدما سمحت 5 أشهر ونصف من القصف الجوي الروسي بتمهيد ميدان المعركة لقوات النظام لاستعادة جزء كبير من الأراضي التي فقد السيطرة عليها، وهو ما برهنت به موسكو على عودتها لساحة الشرق الأوسط بعد غياب دام لعقود. روسيا تجنبت السقوط في مستنقع حرب عبثية، وعززت من موقف الأسد على الصعيد الدولي حينما وفرت له مباحاثات سلام في جنيف تحت مظلة الأممالمتحدة وبمشاركة أمريكية، كما أن جون كيري ونظيره سيرجي لافروف عملا معًا من أجل توفير مناخ للنجاح في جنيف، إذ ضغطت واشنطن على المعارضة كي تقبل بالجلوس على طاولة المفاوضات، كما تعهدت موسكو بأن الأسد سيحترم اتفاق وقف إطلاق النار. "الأمريكيون والروس" اتفقوا أيضًا على رؤية مستقبل سوريا في فيدرالية لا مركزية.. اقتراح رفضه وفدا الحكومة والمعارضة في جنيف وهو الشيئ الوحيد الذي أجمعوا عليه. منذ فبراير، والكلام مازال لبوتين، « تسير الأمور على ما يرام»، حتى وإن كان اتفاق الهدنة تعرض لخروقات هنا وأخرى هناك، وبإعلان الرئيس الروسي سحب قواته الأساسية من سوريا في الخامس عشر من مارس الماضي كانت الرسالة واضحة: لابد من حل سياسي، وبعد ذلك الانسحاب بعشرة أيام استعاد الأسد السيطرة على مدينة تدمر التاريخية التي كانت في قبضة داعش منذ مايو 2015، وهو ما كان ليتحقق دون حضور عسكري روسي باعتراف الأسد نفسه، وقرأ المحللون في ذلك رسالة أخرى من بوتين للأسد: يمكنك الاعتماد علينا في محاربة الإرهاب. "التقارب الأمريكي الروسي" كان بهدف تغير حسابات الأطراف الإقليمية التي تحرك النظام والمعارضة على حد سواء، فالنظام تدعمه إيران ويسانده حزب الله وروسيا، بينما المعارضة السنية يقف معها السعودية وتركيا والولاياتالمتحدة، حيث أرادت واشنطنوموسكو الخروج من دائرة قتال مفرغة كانت من الممكن أن تضعهما في مواجهة بعضهما البعض بشكل مباشر، فحينما قال الرئيس الأسد في حوار لقناة غربية يوم الثامن عشر من فبراير: إن "هدفه هو استعادة كامل السيطرة على الأراضي السورية"، رد عليه فيتالي تشوركين، سفير موسكو بمجلس الأمن، في التو واللحظة: "روسيا بذلت الكثير من الجهود في هذه الأزمة، سياسيًا، ودبلوماسيًا وعسكريًا، ولذلك آمل على الرئيس الأسد أن يأخذ ذلك بعين الاعتبار" أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما فأصاب حلفاؤه السعوديين بصدمة أكبر في حواره مع مجلة The Atlantic المطبوعة السياسية الشهرية، حيث اتهم الرياض صراحة بنشر فيروس سلفي جهادي وهابي معادي للولايات المتحدةالأمريكية في أماكن متفرقة بالعالم، ووصف أوباما القوى العربية السنية (الخليجية تحديدًا) بال"المجتمعات القمعية" التي تريد توريط أمريكا في حروبها الدينية. الباحث السياسي الفرنسي ميشل ماكينسكي، الذي عمل في كل دول الشرق الأوسط ووضع عنها العديد من المؤلفات، يقول لصحيفة لوموند: "أوباما يرفض أي توافق استراتيجي مع مواقف السعودية.. تمامًا كبوتين الذي لا يصطف خلف الأسد بنسبة 100%، لا يمكن النظر لما حدث سوى أنه عودة لقطبي العالم في جحيم الشرق الأوسط".