لم يكن أحد يتوقع أحداث تركيا الأخيرة والتصور بأنها ناتجة عن محاولة بناء مبنى تجارى على أنقاض حديقة عامة لا يزيد عن كونه سذاجة مفرطة أو محاولة من تيارات الإسلام السياسى لتضليل الرأى العام، فى وقت تحتشد فيه القوى الوطنية فى مصر للتظاهر ضد تجاوزات نظام الحكم، وفشله فى تلبية مصالح الشعب وافتقاره إلى قدرة التعامل مع الأزمات، فما يحدث الآن فى تركيا يمكن أن يشكل قوة دفع إضافية للمظاهرات المنتظرة فى 30 يونيو القادم، ونظرة سريعة على تلك المظاهرات الغاضبة تكشف ما الذى يمكن أن تؤدى إليه التنمية الاقتصادية التى تتجاهل أصول العدالة الاجتماعية لرعاية الفقراء والارتقاء بهم، وهذا ما تجاهله أردوغان، إضافة إلى التضييق على حرية التعبير، حتى إن منظمة «مراسلون بلا حدود» وصفت تركيا بأنها أكبر سجن فى العالم للصحفيين. دون مبالغة يمكن القول إن مشكلة ميدان تقسيم فى وسط إسطنبول هى التى فجرت مخزون الغضب المتراكم، لكن العجب العجاب أن إخوان مصر انبروا بحماس منقطع النظير للدفاع عن أردوغان، وبدؤوا فى ترويج أوهام من قبيل أن المعارضة تعزف على الوتر التقليدى ضد أسلمة الدولة باستغلال الرمزية التاريخية للموقع الذى كان معلما فى زمن الخلافة العثمانية، وأن هذه الحديقة أقيمت مكانه، وأن الأعلام أسهم فى تأجيج الأحداث وإشعالها، رغم أن الإعلام التركى بكل أطيافه لحسابات ومصالح مع السلطة تجاهل تماما فى أول يومين هذه الهبة المذهلة، واضطر مجبرا مع تفاقم الأحداث وانتشارها فى وسائل الإعلام العالمية إلى تغطية التظاهرات الواسعة التى انتشرت كالنار فى الهشيم فى كل أرجاء البلاد، وتقول جريدة «الحرية والعدالة» المعبرة عن الحزب والإخوان «واستخدمت المعارضة نشر الأكاذيب التى تراوحت بين اتهام مسؤولى النظام بالفساد والاستفادة من إزالة الأشجار بميدان تقسيم لإقامة مول تجارى، واستخدام الصور الكاذبة لإظهار وحشية الشرطة، مرورا باستخدام الرصاص الحى، وانتهاء بضرورة إسقاط الحكومة، لأنها تريد أسلمة البلد فى تشابه كبير مع الأساليب التى تستخدمها المعارضة فى دول الربيع العربى، خصوصا مصر وتونس» يشعر من يقرأ هذا الكلام للتو أنه صادر عن الإخوان المسلمين فرع مصر، والسبب فى هذا أنهم يعتبرون أنفسهم وحدة واحدة مع كل من يرفع يافطة للإسلام، ويبدو أنهم نسوا كلام أردوغان فى أثناء زيارته لمصر عن أن الإسلام فى القلب والدولة علمانية، وقد استخدم الرجل لفظ علمانية تحديدا، وهاجمه الإخوان وقتها بعنف، لأنهم من أنصار الدولة الدينية، ولا يريدون لأحد أن يعطل مشروعهم الوهمى عن الخلافة، وهم يدافعون فى موقفهم باستماته تثير الشفقة، لأنهم يبدون فى هذا مغيبين عن الواقع، فالكلام الغث عن الصور الكاذبة لوحشية الشرطة يكذبهم فيه اعتراف أردوغان نفسه بأنها استخدمت العنف المفرط ضد المتظاهرين، وأنه سيأمر بمحاسبة من تسبب فى هذا، ولأن الإخوان يتوهمون فى أنفسهم أنهم الإسلام يقولون كلاما غريبا غير واقعى وغير موضوعى، إذ يعتبرون أن الغاضبين هناك يقفون ضد حكومة أردوغان، لأنها تريد أسلمة البلد، وأنهم يستخدمون أساليب المعارضة فى دول الربيع العربى، خصوصا مصر وتونس.. هكذا الأمر كل من يعارض السلطة التى تتمسح فى الإسلام أو تعتبر نفسها الممثل الحصرى له، فهو فى عداء مع الدين الإسلامى، حتى وإن كان موضوع المعارضة المختلف عليه فى شؤون لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد، كأنهم مفوضون بأمر إلهى يمنحهم قداسة تفرض حظرا على توجيه النقد لهم أو الاختلاف معهم. لا جدال فى عدم تطابق الحالة التركية مع مثيلتها فى مصر، لأن أردوغان عندما تسلم السلطة ورث معها قبضة حديدية من العسكر والحكومات التابعة لهم، مما أتاح له هيمنة مغلفة بديمقراطية الصندوق، بينما تولى مرسى السلطة بعد انتفاضة عظمى أطاحت بحكم شمولى من أجل ديمقراطية غير منقوصة لا تقبل بالإقصاء والمغالبة، ثم إن حزب العدالة والتنمية يعلن رسميا أنه ضد الدولة الدينية على عكس تيارات الإسلام السياسى، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين التى تجرى وراء خرافة الدولة الدينية، وإذا كانت تركيا تعيش حالة انتعاش اقتصادى، إلا أن مصر يتدهور اقتصادها يوما عن يوم وتركيا مليئة بالأعراق والمذاهب، بينما لا ينسحب هذا الوضع على مصر، لذلك فإن أى محاولة للقياس بينهما حتى لو تعلق الأمر بالتظاهر غباء مفرط لاختلاف الأسباب والدوافع، وإن اتفاق المعارضة الشعبية هنا وهناك يتمثل فى السعى نحو الديمقراطية الصحيحة. أما البعد الخاص بالإخوان عمليا فهو إن أردوغان داعم مالى أساسى ومنقذهم من الهلاك الاقتصادى.