حقيقة ما تقدمه جماعة «الإخوان» من دروس وتعاليم ومناهج تربية لأفراد صفها، لم يصب يوما داخل إناء الدولة التركية الحديثة.. فقد كانت كل روافده تؤدى إلى دولة «الخليفة العثمانى» قبل سقوطها.. أو استدعاء التجربة الإيرانية من بين جدران طهران! لذلك عندما جاء رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان إلى مصر وقال إن نموذج الدولة العلمانية هو النموذج الأفضل لمصر فى الوقت الحالى، كانت الكلمات أقسى مما تتحمله مخيلة قيادات الجماعة، التى حاولت استدعاء تجربة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم فى تركيا - عبر اقتباس الاسم فقط - لتنشئ حزبها «الحرية والعدالة»! وقام العديد من قياداتها بهجوم كاسح على الرجل الذى غادر القاهرة قبل أيام قليلة، حتى إن الدكتور محمود غزلان المتحدث باسم الجماعة وصف ما قاله أردوغان بأنه بمثابة التدخل فى الشأن الداخلى المصرى! رفعت السعيد رئيس حزب التجمع قال إن أردوغان عندما جاء إلى السلطة احتفى الإخوان به فى مصر، وكأنهم انتصروا فى معركة ضد اليهود.. وبالتالى عندما جاء إلى القاهرة كان الاحتفاء المبالغ به من قبلهم أمرا منطقيا لأنهم يصورونه طوال الوقت السابق بأنه زعيم مسلم قادر على قيادة المنطقة. ولذلك ظهر ذلك فى المظاهرات الإخوانية بمطار القاهرة عند استقباله ولم تكن من أحد سوى جماعة الإخوان. لكن الرجل يعرف جيدا أنه منتم للاتحاد الأوروبى ومن شروطه الاعتراف.. بعلمانية الدولة وأيضا لا يريد الدخول فى مواجهة مع الجيش التركى العلمانى.. ولذلك كان أكثر ذكاء عندما تحدث عن علمانية تركيا وقال أنا مسلم ورئيس وزراء لدولة علمانية 90% من سكانها مسلمون. ولذلك كانت الرسالة قاسية جدا وتحمل دلالات خطيرة لنظيرتها المصرية، وهذا ما سبب الصدمة لقيادات الإخوان ومشايخ السلفية، وعلى رأسهم حازم صلاح أبوإسماعيل المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، لأن هذا يتناقض مع ما أوهموا به الشعب فى حالة وصولهم للحكم. ولذلك أقر أردوغان أن ديمقراطية الدولة تأتى بالعلمانية وليس بغير ذلك مادام الأفراد متساوين فى الحقوق والواجبات ويخضعون للقانون، وهو ما نتج عنه هجوم مضاد من قادة الجماعة لتحسين صورتها فى الشارع، ووصف أردوغان أنه مخطئ لأن النموذج التركى غير صالح للتطبيق فى مصر وأنا أقول لهم «أين كان هذا الكلام سابقا»؟! الباحث فى العلوم السياسية عمار على حسن قال لنا: إن تصريحات أردوغان فضحت المسلك الدعائى الذى يسلكه التيار المحافظ فى مصر، والذى يحاول طوال الوقت تشويه صورة الليبرالية والعلمانية باعتبارهما ضد الدين.. وتصوير أنفسهم على أنهم أصحاب الرسالة الحق، وبالتالى وجود قائد مثل أردوغان يقر بأن العلمانية ليست ضد الدين فهذا يمثل صدمة لهم لأنه يكشف الأكاذيب التى يرددها كلا التيارين، إذ إنه يؤكد أن الليبراليين ليسوا ضد الدين وأن الإسلاميين ليسوا هم الدين. وأضاف عمار إن جماعة الإخوان استغلت أمية الشارع من أجل توظيف الدين فى السياسة، ومن أجل كسب الرأى العام لصالحهم باعتبار أن النموذج التركى هو النموذج المنشود، باعتبار أن تركيا دولة إسلامية. أما النقطة الثانية فهى أن النموذج التركى يعطى للجيش دورا فى الحياة السياسية ويبدو أن هذا الأمر أزعج التيار الدينى الذى يريد أن ينفرد بالحكم فى مصر، إذ إن أردوغان طالب المتظاهرين بأن يكفوا عن المظاهرات وأن يعودوا إلى العمل فى الوقت الذى تقوم فيه جماعة الإخوان المسلمين بالتهديد بالتصعيد فى مليونيات جديدة فى حالة عدم إجراء الانتخابات فى موعدها المحدد. وفسر عمار تحول العلاقة التى وصفها بالجيدة أيام حكم مبارك والتوتر الموجود الآن بأن جماعة الإخوان استخدمت النموذج التركى كمرآة لهم من أجل إيهام المصريين بأنهم قادرون على تحقيق التنمية. .. كما كانوا يستخدمون تركيا للرد على منتقديهم من القوى السياسية الأخرى. وهذا يدل على أن كلامهم فى الماضى لم يكن محل اقتناع وانفضح أمرهم أخيرا لأنهم استخدموا تركيا فى الدعاية السياسية فقط! عمار أردف: المدهش أن الليبراليين واليساريين هم من يرحبون بالنموذج التركى.. ويقف ضدهم الإسلاميون.. فالإسلاميون يرون أن النموذج السعودى أو الإيرانى هو الأفضل الآن.. وربما السبب فى ذلك هو أن الحركات الإسلامية فى مصر ظلت جامدة طوال 20 عاما جعلتهم يرون الشكل الخارجى ولا يستطيعون الوصول للمضمون. حسين عبدالرازق القيادى بحزب التجمع انطلق من فرضية مفادها أن الإخوان وتركيا تجربتان مختلفتان.. فالنموذج التركى استطاع أن يجمع بين الإسلاميين وقوى المجتمع الأخرى لتحقيق الديمقراطية فى ظل الحفاظ على هوية الدولة العلمانية، بينما الإسلاميون فى مصر والأحزاب ذات المرجعية الإسلامية مثل «الحرية والعدالة» قد دخلت فى مواجهة مع الليبراليين، وأقصت العلمانيين، وبالتالى ما يقدمه أردوغان هو فكر مستنير، وما يقدمه الإخوان والسلفيون هو فكر متخلف لا يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث والانتقال للديمقراطية. وحول تحليله لهجوم الإخوان على أردوغان فور تصريحاته قال عبدالرازق: جماعة الإخوان فقدت توازنها لأنها تصورت أنها قريبة من الوصول إلى السلطة وأسرعوا بالكشف عن أهدافهم الحقيقية التى أخفوها طوال عقود ماضية فى ظل قمع نظام مبارك لهم.. واحتياجهم لتقييد القوى السياسية الأخرى، ولذلك كانوا حريصين على إقامة علاقات معهم، أما اليوم فالأمر اختلف لأنهم متيمون بالسلطة التى يظنون أنها باتت قريبة منهم، بل وصل الأمر إلى أنهم لوحوا بالعداء للمجلس العسكرى عندما وجدوه يميل إلى وضع مبادئ حاكمة للدستور، لأنهم يخشون الحفاظ على مدنية الدولة التى تتعارض مع طموحهم. عبدالرازق قال أيضا: إن الشباب الذين استقبلوا أردوغان فى المطار ورفعوا لافتات تطالب بالخلافة الإسلامية هم جهلة بحقيقة التجربة التركية. وحول ما إذا كان النموذج التركى صالحا للتطبيق فى مصر قال: لا يوجد نموذج أوحد صالح للتطبيق فى كل عصر وفى كل مكان لأنه كما أخفق الشيوعيون فى مرحلة ما عندما اعتبروا التجربة السوفيتية صالحة للتعميم يظن الآن البعض أن النموذج التركى صالح للتطبيق فى مصر.. وهذا خطأ لأن كل شعب له صفاته وطباعه التى تفرض عليه شكل الدولة. الكاتب الصحفى الكبير صلاح عيسى رفض وضع البيض كله فى سلة واحدة، قائلا: السلفيون منذ فترة بعيدة وهم ضد الدولة التركية، إذ لا يعتبرونها «إسلامية»، وحتى أيام مبارك - وقت الغزل للأتراك - كان السلفيون فى موقف الهجوم عليها، أما جماعة الإخوان فهى من أوهمت الشعب بأن النموذج التركى هو الأصلح للتطبيق ويحقق الرخاء والتنمية فى المجتمع، ثم جاءت تصريحات أردوغان صادمة وكاشفة للإخوان. وهذا يدل على أننا مازلنا متأخرين عنهم، ونحتاج إلى ما بين 10 و15 عاما من أجل تفاعل الحركات الإسلامية مع غيرها من القوى الليبرالية حتى ننتج مجتمعا مثل تركيا.. ولكن ما شاهدناه منذ أيام من قيام قادة الإخوان بهجوم لا يحمل أى نوع من التفاهم أو الجدال البناء، وإنما اتهموه بأنه يتدخل فى الشئون الداخلية.. وهو أمر يدعو للدهشة! وما يحدث الآن محاولة للعودة بمصر إلى عام واحد هجريا.. فما قاله أردوغان كان للإخوان صدمة من الشخص الذي اعتبروه سابقا فاتحة خير لهم ولم يتصوروا أن يكون بهذا القدر من المصارحة. وبالتالى فقد أحبط المخطط الإخوانى.. وأبدى عيسى استياءه مما قام به شباب الجماعة فى مطار القاهرة عندما رفعوا لافتات تطالبه بإقامة الخلافة الإسلامية.. وهم شباب لا يدرك أهمية دولة مستقلة ومحورية مثل مصر، الذين يريدونها ولاية تابعة للحكم العثمانى!