عشية انعقاد مؤتمر روما حول الأزمة الليبية، في 13 ديسمبر الحالي، ظهر بعض التقدم في الساحة السياسية الليبية بين مجلس النواب المعترف به دوليا بمدينة طبرق والمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته في طرابلس. كما بدأ العديد من التحركات الدولية، والتصريحات المهمة، سواء من قوى دولية أو من دول حوض البحر المتوسط، وعلى رأسها مصر وإيطاليا. وزير الخارجية الإيطالي باولو جنتيلوني أعلن أن ممثلين عن حوالي 40 دولة يشاركون في مؤتمر حول ليبيا و"حوارات حوض البحر المتوسط" اللذين يعقدان في روما في الفترة من 11 إلى 13 ديسمبر الحالي، حيث تستضيف العاصمة الإيطالية "حوارات حوض البحر المتوسط" في 10 و11 يسمبر، بينما ينعقد المؤتمر الدولي الخاص بليبيا يوم 13 من نفس الشهر. وحسب جنتيلوني، فإن "الحوارات" ستتناول مناقشة أزمات منطقة حوض المتوسط والخطر الإرهابي وقضية الهجرة. وفي الوقت الذي أشار فيه الوزير الإيطالي إلى المرحلة الحرجة التي يمر بها حوض البحر المتوسط حاليا، أعرب عن أمله بأن يشارك وزيرا الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الأمريكي جون كيري مرجحا عقد لقاء بينهما على هامش المؤتمر. غير أن الولاياتالمتحدة لا تزال صامتة بهذا الصدد، أما روسيا فقد أعلنت على لسان نائب وزير خارجيتها جينادي جاتيلوف بأنها ستشارك في المؤتمر على مستوى نائب الوزير ومدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الروسية سيرجي فيرشينين. قبل أيام من لقاء روما، توصل طرفا النزاع في ليبيا إلى اتفاق مبدئي ينهي حالة النزاع بينهما، بعد مفاوضات في العاصمة التونسية، بين مجلس النواب المعترف به دوليا في طبرق والمؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته في طرابلس والذي يضم العديد من التيارات والقوى الإسلامية. ونصَّ الاتفاق، الذي وقعه رئيس وفد مجلس النواب إبراهيم فتحي عميش ورئيس وفد المؤتمر الوطني العام عوض محمد عبد الصادق، على 3 نقاط لتسوية الأزمة السياسية في ليبيا: -العودة والاحتكام للشرعية الدستورية المتمثلة في الدستور الليبي السابق باعتباره الخيار الأمثل لحل النزاع على السلطة التشريعية ولمدة أقصاها عامان. -تشكيل لجنة من 10 أعضاء بالتساوي بين البرلمان والمؤتمر الوطني تعمل على المساعدة في اختيار رئيس حكومة وفاق وطني ونائبين له لتهيئة الظروف لإقامة انتخابات تشريعية في مدة لا تتجاوز العامين. -تشكيل لجنة من 10 أعضاء من البرلمان والمؤتمر الوطني تتولى مهمة تنقيح الدستور المشار إليه وحل النزاع التشريعي بما يتفق وخصوصية وطبيعة المرحلة. وعلى الصعيد المصري، دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي، الثلاثاء الماضي، إلى "تعبئة دولية" لتأمين حدود ليبيا ومنع تدفق السلاح والمقاتلين منها. وقال خلال لقائه رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس في أثينا إن عدم التحرك سيقود إلى أخطار جديدة في المنطقة. وأشار إلى أن مصر تبذل "جهودا هائلة"، لمراقبة حدودها مع ليبيا، لكنها "في حاجة إلى مساندة الاتحاد الأوروبي والدول الأخرى المعنية بالاستقرار في المنطقة". وأضاف ان تعبئة الجهود الدولية ضروري لإيقاف تجارة السلاح وتأمين الحدود البرية والبحرية" لهذه الدول. من الواضح أن إيطاليا تحاول استثمار ورقة "حوض البحر الأبيض المتوسط" لتكوين مجموعة دول ذات اتجاه واحد في تسوية الأزمة الليبية. غير أن إيطاليا عضو حلف الناتو، لا يمكنها أن تخرج عن إجماع الحلف الذي يضم أيضا فرنسا اللاعب الرئيسي في ليبيا، كما يضم الولاياتالمتحدة التي تقوده عمليا، وهي الطرف الذي يعتبر ليبيا كلها منطقة مصالح له. بل يؤكد العديد من التقارير أن هناك صراعا شديد الوطأة بين باريس وواشنطن في ليبيا. وبالتالي، لا تستبعد تقارير غربية أن تكون زيارة السيسي إلى كل من اليونان وقبرص، قد تضمنت مباحثات مهمة بشأن تشكيل رؤية "متوسطية" حول الأزمة في ليبيا على اعتبار أن مصر من أكثر الدول المتضررة من ما يجري هناك، ومن الصعب إزاحة مصر عن دورها في ليبيا أو تجاهل مصالحها في هذا البلد. غير أن مناورات القوى الدولية الكبرى تفسد جانبا كبيرا من جهود جيران ليبيا في مكافحة الإرهاب. إذ يتم تأجيل الملف الليبي نظرا لانشغال الجميع بأولوية الأزمة السورية، ومكافحة الإرهاب في سورياوالعراق، والصراعات بين روسياوالولاياتالمتحدة، والتي بدأت تأخذ طابعا دوليا عاما، تورطت فيه تركيا بإسقاط القاذفة الروسية، وأعلن الناتو انحيازه لأنقرة ليبدأ تحركات عسكرية في البحر الأسود والمضايق التركية والبلقان. عشية لقاء روما، وصف وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مساعي تنظيم "داعش" التوسعية وقيامه بإعلان مدينة سرت عاصمة للخلافة بأنه "إشارة تثير قلقا بالغا". واعتبر أن "داعش" يبذل جهودا قصوى لإثبات نجاح مشروعه، ما يتطلب منه توسيع وتمديد "خلافته". وأشار في الوقت نفسه إلى تزايد عدد خلايا "داعش" في الأراضي المصرية أيضا. الإشارة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي لافروف في اتجاه مصر، تبدو عابرة، ولكنها تمتلك مخاطر كثيرة، لأنها ببساطة لها معان دبلوماسية وسياسية، وربما عسكرية أيضا. ومن الواضح أن روسيا قد طرحت عددا من السيناريوهات للتعاون في مكافحة الإرهاب مع مصر. وذلك عقب تحطم طائرتها في سيناء. إلا أن الأمر، على ما يبدو، لم يصل إلى موافقة القاهرة على إنشاء مركز تنسيق على غرار ما شكَّلَته روسيا في العراق والأردن، وتوقف الأمر على استمرار التعاون من خلال القنوات الموجودة أصلا بين القاهرةوموسكو. لذلك تحديدا، تتعمد موسكو الإشارة بشكل دائم إلى استفحال الإرهاب في مصر، وانتشار خلايا لتنظيم داعش، ما يعطي انطباعا بأن روسيا تضع مستوى الإرهاب في مصر على نفس درجته في سوريا وليبيا. وفي نفس السياق، تواصل وسائل الإعلام الروسية التركيز على هذا الجانب. إذ تطرقت صحيفة "كوميرسانت" الروسية الى التقرير المقدم لمجلس الأمن الدولي الذي يتضمن إشارة الى ان "داعش" قد وجد موطئ قدم في ليبيا، ليكون رأس حربة لغزو الدول الأفريقية المجاورة، وأن مخاطر الإرهاب في ليبيا لا تهدد تلك الدول فقط، وإنما أيضا الدول الأوروبية. ووصلت الصحيفة إلى أنه "إذا أخذنا بعين الاعتبار الفوضى التي تعم ليبيا وانعدام السلطة، فإنه ليس مستبعدا تنظيم عملية عسكرية لمحاربة الإرهاب في أفريقيا هذه المرة". التقرير الذي اعتمدت عليه الصحيفة، يتكون من 24 صفحة وأعده عدد من الخبراء بطلب من الأمين العام بان كي مون، وتم تقديمه بالفعل إلى مجلس الأمن الدولي. ويتضمن دراسة لكيفية مكافحة المجموعات والمنظمات الإرهابية مثل "القاعدة" و"داعش". وقد أكد معدو التقرير بأن "داعش" تمكن من خلق موطئ قدم استراتيجي في ليبيا يشكل رأس الرمح في عملية بسط سيطرته على الدول المجاورة (تونس، مصر والدول الواقعة جنوب الصحراء) وزعزعة الاستقرار فيها. ووفق معطيات التقرير، يوجد في ليبيا حاليا 3 آلاف مسلح ل "داعش" نصفهم يرابطون في مدينة سرت. إضافة إلى انتقال بعض قيادات "داعش" من سورياوالعراق إلى ليبيا. أي أن ليبيا أصبحت قاعدة خلفية لدولة "الخلافة"، حيث تجري عمليات تدريب للمسلحين و"إعدادهم أيديولوجيا". وحسب التقرير أيضا، فإن وجود كوادر ذات خبرة ل "داعش" في ليبيا، قد يؤدي مع مرور الوقت إلى ابتكار طرق "محسنة" لتنفيذ عمليات إرهابية في الدول الأفريقية. كما أن هناك خطرا آخر يشمل أوروبا التي يفصلها عن ليبيا البحر الأبيض المتوسط فقط. أي ليس هناك أي شيء يضمن عدم تغلغل هؤلاء الارهابيين في إيطاليا بصفة مهاجرين، ومنها في دول الاتحاد الأوروبي، لتشكيل "خلايا إرهابية نائمة" فيها. وأكد التقرير على نقطة مهمة، مشيرا إلى أن ليبيا تعيش أزمة وفوضى في كل شيء، حيث لا وجود للسلطة المركزية فيها، بل حكومتان واحدة في الشرق والثانية في الغرب. فالحكومة التي مقرها مدينة طبرق شرق ليبيا تحظى باعتراف دولي، أما الحكومة الثانية المدعومة من الاسلاميين والتي مقرها طرابلس فقد حصلت على اعتراف تركيا وقطر فقط. إضافة إلى هذا يوجد في ليبيا أكثر من 100 مجموعة مسلحة تتقاتل فيما بينها. واستنتجت الصحيفة الروسية من التقرير الأممي أن "القيام بعملية عسكرية دولية في ليبيا سيساعد على استتباب نسبي للأمن هناك والقضاء على بؤر داعش. لكن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي لم يعلنا عن استعدادهما لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا، لأن الأولوية هي للجبهة الرئيسية لمحاربة الارهابيين في العراقوسوريا". وانتهت الصحيفة إلى التأكيد بأن الدول العربية لم تقم بأي عمل لمحاربة "داعش" في ليبيا سوى الغارات الجوية التي تنفذها بين فترة وأخرى طائرات من مصر والامارات العربية المتحدة. وذهبت إلى أن "القوة العربية الوحيدة التي يمكنها نظريا محاربة داعش في ليبيا هي القوات المسلحة المصرية، وهذه القوات منشغلة حاليا في محاربة أنصار داعش في شبه جزيرة سيناء". لا شك أن محاربة الإرهاب تجري على قدم وساق في مصر، كما تجري في روسياوفرنساوالولاياتالمتحدة. ولكن تركيز وزير الخارجية الروسي، ووسائل الإعلام الروسية، على مساواة مخاطر داعش في مصر بمخاطرها في ليبيا وسورياوالعراق، يمثل شكلا من أشكال الضغوط على القاهرة. وهو ما يتطلب من الأخيرة ضرورة تكثيف عمليات مكافحة الإرهاب في سيناء، وتنويع التعاون مع كافة القوى الدولية لمواجهة الإرهاب في ليبيا، بعيدا عن الأحلاف، والتحالفات التي تهدف لتصفية الحسابات بين الدول الكبرى، والتركيز على التعاون مع دول حوض البحر المتوسط لخلق توجه عام يحافظ على أمن مصر ويحفظ لها دورها الإقليمي من جهة، ومصالحها في ليبيا من جهة أخرى.