يبدو أن الشكوى التى تكررت كثيرًا فى الواقع المصرى من سيطرة جيل الستينيات على المشهد الثقافى بقوة إبداعهم، وبخاصة لدى الكبار من بهاء طاهر ومحمد البساطى إلى عبد الحكيم قاسم وإبراهيم أصلان إلى أمل دنقل ومحمد عفيفى مطر وحتى سيد حجاب وعبد الرحمن الأبنودى، وحجبهم لإنجازات الجيل التالى لهم تجد نظيرًا لها فى المشهد الفكرى الفرنسى. فقد صدرت بالإنجليزية فى ديسمبر الماضى دراسة مهمة بعنوان «الانعطافة الأنثروبولوجية: النسق المحجوب فى الفكر الفرنسى الحديث» للباحث الإنجليزى جاكوب كولينز، تشكو الأمر نفسه، وهو أن جيل المفكرين الفرنسيين الكبار الذين ظهروا فى ستينيات القرن الماضى من أمثال رولان بارت وميشيل فوكو وجيل ديلوز وجاستون باشلار وجاك ديريدا وغيرهم قد حجبوا إنجاز الجيل التالى لهم، رغم أهمية إنجازات هذا الجيل وفرادتها. ويتناول الكتاب بالدرس والتحليل أربعة ممن يمكن وصفهم بأنهم من جيل السبعينيات الذى سقط فى ظل جيل الستينيات العملاق. ربما لأن سياق السبعينيات الذى ظهروا فيه شهد تحولا من فورة التحرر وازدهار اليسار نحو اليمين وتجدُّد حرب الخمسينيات الباردة، وهو ما يفسر عنده ما يدعوه بالانعطافة الأنثروبولوجية فى الفكر الفرنسى، وعودته من جديد إلى درجة صفر التفكير حسب تعبير بارت الأثير. لأن رغبة هذا الجيل الجديد فى التميز دفعته إلى العودة لطرح أسئلتهم الجذرية على المقدس والدينى والسياسى معا، والاشتباك مع استقصاءات الحداثة وما بعد البنيوية والتفكيكية وغيرها من منجزات مفكرى جيل الستينيات. ويركز الباحث على استقصاء أعمال أربعة من هؤلاء المفكرين: آلان دى بونوا، ومارسيل جوشيه، وإيمانويل تود، وريجيه دوبريه، الذين يغطون الطيف الفكرى فى جيلهم من اليمين حتى اليسار. ويستجيبون، كل بطريقته لمختلف أسئلة السبعينيات، طارحين إجاباتهم الشائقة والمهمة عليها. ولأنه ليس ممكنا فى مقال قصير كهذا تناوُل أفكار المفكرين الأربعة أو حتى عرضها بشكل مخلّ، فإننى سأتوقف عند آخرهم، ريجيه دوبريه لأن الصدفة وحدها جعلت مجلة «الدوحة»، تهدى قراءها فى الشهر التالى لظهور دراسة جاكوب كولينز كتابا صغيرا له بعنوان شائق «فى مديح الحدود». ترجمته الكاتبة السورية ديمة الشكر، وبذلت جهدا مشكورا فى تزويد الترجمة بكثير من الهوامش التى تيسِّر استيعاب القارئ له. كما أن دوبريه هو الوحيد بينهم الذى جمعت مسيرة حياته بين الفكر والممارسة، فقد أمضى ثمانى سنوات من شبابه فى أمريكا اللاتينية يعلِّم فى كوبا وينظِّر للثورة بها، وأمضى منها ثلاث سنوات فى سجن ديكتاتور بوليفيا بسبب نضاله مع تشى جيفارا فيها. كما أنه من أكثرهم غزارة فى الإنتاج وتنوعا فيه. فقد كتب الأطروحات الفلسفية والرواية والمسرحية والمذكرات والدراسات الفكرية والسياسية. ويعتبر أن دوبريه وجوشيه قدما أهم الاستقصاءات الفكرية حول الدين والعلمانية، وأنهما أكثر المفكرين الأربعة خصوصية وأصالة. والواقع أن كتابه الصغير «فى مديح الحدود» وهو محاضرة طويلة ألقاها فى اليابان وكتبها عنها إلى حد ما، كتاب بديع يصعب تلخيصه. لأنه يمزج الشعر بالفكر والأدب، والفلسفة بالجغرافيا والتاريخ، ويزيل الحدود بين المعارف معيدا الفلسفة إلى وظيفتها الأولى فى تأمل الحياة من جديد كى تطلع علينا بكشوفها البسيطة والباهرة معا. بصورة تذكِّرنا بمنهج باشلار التأملى الذى يربط المكان بالفكر والإنسان معا، ويسعى إلى إماطة اللثام عما يمكن تسميته بجوهر الإنسان. وهو فى الوقت نفسه كتاب ثرى صعب يحتاج إلى أكثر من قراءة وتأمل، لكثرة ما به من إحالات ثقافية ومعرفية على تواريخ ووقائع وعادات وأديان وشخصيات وفلسفات. كتاب فيه كثير من حسّ الحكمة لعمق بصيرة كاتبه وقدرته على تقطير خبرته الإنسانية بما يكتب عنه. تأمل قوله «تصمد الحدود بتحولاتها، وتبقى بتغيراتها، فالثبات بداية الدمار». وكيف يضىء لنا لا ما يتحدث عنه فحسب من قضية الحدود، ولكن أيضا مآلات الوهابية والفكرة الصهيونية فى منطقتنا أيضا. ويتكون الكتاب من خمسة أقسام: «اتجاه معاكس» و«فى البدء كان الجلد» و«أعشاش وكوى: العودة» و«أسوار وأبواب: الصعود» و«قانون الفصل»، بصورة تناظر فيها العناوين الخمسة بنية الأطروحة التى يقدمها، والتى تبدأ من اتجاه معاكس للفكر السائد وتنتهى بتأسيس قانون الفصل/الحدود. وينطلق الكتاب، كما يقول عنوان فصله الأول، فى اتجاه معاكس يستهدف تقويض الفكرة التى تفتن الغرب، وينهض عليها ديدنه الجديد «العولمة» والتى تعتقد أن الإنسانية ستكون أفضل حالا بزوال الحدود، وأن ازدهار الديموقراطية مرتبط باختفائها. فنحن فى عصر الإنترنت والعالم الافتراضى الذى لا حدود له. ويكشف عن خطل التهليل لزوالها كما حدث مع سقوط حائط برلين. ويستخدم فى هذا المجال مثال اليورو وما به من تناقض، حيث اتخذ الجسر بديلا للشارات القومية القديمة، وأحاله إلى علامة خاوية بجسور معلقة فى الهواء تسعى إلى الربط بين جغرافيات اختفت حدودها. ويكشف لنا عن تناقض آخر هو أنه بينما يزدهر خطاب إزالة الحدود تدور عمليات ترسيمها على قدم وساق. فقد اتسم نصف القرن المنصرم بترسيم الحدود، وتم ترسيم 27 ألف كيلومتر منها فى أوروبا وحدها منذ عام 1991 حتى الآن. وفى الفصل الثانى «فى البدء كان الجلد» يستعير الاستهلال التوراتى ليكشف لنا عن أنه لا وجود لأى كائن حى ولا لحياة دون الجلد. لأنه يرسم حدود الكائن ويحميه معا، فحتى النواة الأولية أو الخلية المفردة لها غلافان. «فالجلد هو الجهاز الأكثر داخلية، فكل شىء يترك أثره فيه والعكس صحيح» (ص55)، وكذلك الحدود. والحدود التى يكرس دوبريه كتابه الصغير هذا لمديحها ولإرهاف الوعى بأهميتها هى أكبر كثيرًا من الحدود الجغرافية التى يعاد ترسيمها، وأعقد منها. ولا بد من قراءة هذا الكتاب الصغير أكثر من مرة لإدراك طبيعتها ومداها. لأنها تتعلق بكل شىء فى حياتنا العصرية التى يتخللها منطق اجتياح الحدود باستمرار، بينما نحتاج إلى الحرص عليها كى تكون الحياة على الأرض أكثر جمالا وإنسانية.