ركنت سيارتى على حدود مصر الجديدة.. وأوقفت تاكسى أبيض جديدًا ليحملنى إلى وسط البلد، ليتحمّل عنى حرب السواقة.. اضطُررت إلى الصراخ ليسمعنى السائق وأنا أحدِّد له وجهتى، لأن صوت القرآن المنبعث من راديو التاكسى كان مدويًا.. قلت لما أركب هاطلب منه بظرف يوطّى الصوت.. ركبت وكانت الشبابيك كلها مفتوحة، فتداخلت أصوات كلاكسات السيارات مع الموتوسيكلات مع الراديو وبدأت تقتحم أعصابى.. قمعت نفسى بصعوبة عن طلب تهدئة الصوت خوفًا من رد فعل السائق، لأن ميليشيات الإخوان مالية البلد، ونصفهم سرى حالق دقنه ولابس كرافت.. وأنا فى نظرهم كافرة وكمان متبرّجة.. وربنا قال كونوا حكماء كالحيات بسطاء ودعاء كالحمام.. أغلقت شباكى لأحجب صوت الشارع، فلاحظت هدوءًا مضاعفًا واكتشفت أن السائق أخفض صوت الراديو بنفسه.. نظرت إلى وجهه فى المرآة وجدته بدقن خفيفة مش لحية، فتوجّست شرًّا، لكن مستحيل انزل واحنا داخلين نفق الأزهر.. صمت، لكنه تكلم عن حكم المرشد وكذب الإخوان، وأدركت أنه تفحّص سيارتى قبل ركوبى معه ولاحظ الصليب المعلّق فى المرآة.. الصليب الذى يذكّرنى بأن لا أخاف أبدًا.. كان السائق يتكلّم بهدوء وثقة مثقفى الستينيات وهو ما يتنافر مع مظهره المبهدل.. أدهشتنى بساطة بلاغته وعمق فهمه للدين ولدور الحاكم الأمين.. قال إنه متفرج لكل البرامج الدينية إسلامية ومسيحية، ولا يعجبه الشتّامين، لكنه يحب أن يعرف ويقارن ويفكر ليكون رأيه من دماغه.. وحكى لى أنه تأثّر جدًّا عندما بكى البابا تاوضروس فى حفل تتويجه بالكاتدرائية.. قال البابا بكى وهو يتوّج ملكًا فى يده كل السلطة على الشعب المسيحى.. بكى لأنه شعر بالخوف من المسؤولية.. لأن الله سيحاسبه عن سلامة كل نفس من شعبه.. دموعه كانت حقيقية وتلقائية ومذهلة بالنسبة إلىّ، يبكى بدل ما يفرح بعظمة الكرسى وخضوع الشعب.. السائق كان يحكى ويستطرد دون انتظار تعليق منى، ولا مقاطعة.. قوليلى مرسى بكى لما المجنّدين الغلابة اتقتلوا فى رفح! ولما القطر دهس أوتوبيس المدرسة واتقتل خمسين فى منفلوط!! نزلت منه دمعة على شهداء الاتحادية أو التحرير! تصدّقى، أنا نفسى أشوف دمعة واحدة لمرسى فى أى حادثة.. نزلت من التاكسى وقد استعدت شيئًا من تفاؤلى وثقتى بالشعب المصرى.. واستعدت بعضًا من مرحى على غير المتوقع.. فشكرًا لك يا محمد لو قرأت هذا المقال.. وأعترف أنى تذكرتك عندما رأيت فيديو المواطن المسحول حمادة صابر.. الذى أبكى كل قوارير مصر، وهو يُسحل مجردًا من ملابسه ليلة جمعة الخلاص.. لكن مشهد وحشية جنود الأمن المركزى المصرى، المفعول بهم مثلنا، كان غريبًا.. ما الذى دفعهم لتجريده وسحله وهم يعلمون أن كاميرات كثيرة تتبعهم وترصدهم وتتربص بهم للتشهير بالشرطة.. ماذا فعل؟ وهل هو أحد المتظاهرين المطالبين بعيش وحرية وكرامة، أم هو عاطل مأجور لاستفزاز الشرطة ضد المتظاهرين.. واحد من كتيبة أطفال الشوارع والبلطجية الذين يطلقهم علينا سارقو الثورة فى كل مظاهرة ضد حكم المرشد، وضد أخونة الدولة.. ولإرهاب كل مَن يتظاهر تظلمًا من الغلاء والبطالة والكذب والتدهور السريع للمعيشة فى مصر، خصوصًا بعد انهيار السياحة.. مَن أنت أيها العارى فى عز البرد، المسحول علنًا؟ وماذا فعلت؟.. وقبل مرور 12 ساعة على فيديو السحل، تعددت الروايات والإجابات على تساؤلى.. صفحة الشرطة على الفيسبوك قالت إن هذا جرم فردى فى حق المواطنين وفى حق 176 شهيد شرطة، والسبب هو الضغوط العصبية على الأمن، وغضب الجنود الشديد، لأن المسحول أطلق خرطوشًا فى وجه قائدهم فأصابه وحاول الهرب، والقائد المصاب فى العناية المركزة الآن، وسيُحاسب الجنود.. أما خيرت الشاطر أشطر الإخوان، فنُشر له تصريح لم يتم تكذيبه حتى كتابة هذه السطور، يقول إن قوات الأمن المركزى التى توافدت بمحيط الاتحادية هى أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين فى زى الأمن.. لأن دولة المرشد بصدد إعفاء وزارة الداخلية من تطبيق القانون، وهيطبقوه هم بميليشياتهم، ويوفروا الأمن للمواطن ويحموا المنشآت والممتلكات الخاصة والعامة.. أما الشيخ المذيع بقناة الحافظ فقال إن حمادة اعتدى على الأمن، وهو اللى خلع ملابسه عشان ماحدش يعرف يمسكه.. وسخر منه الشيخ المذيع، قائلًا إن حمادة واحد من أيتام وأرامل المخلوع.. والحقيقة؟ الحقيقة ما زالت تايهة.. لكن آخر خبر، أن المسحول لم يتّهم الشرطة فى محضر النيابة بأى حاجة رغم الفيديو والإصابات.. وفسّر خبثاء الفيسبوك الفزورة، بأن وزير الداخلية بنفسه كلّمه واعتذر له وحَب على رأسه فى التليفون.. فشعر المتظاهر البلبوص بالحرج وتنازل عن حقّه.. لكن يبقى أكثر من سؤال مهم: مَن هو حمادة البلبوص المفضوح.. ثائر أم بلطجى مأجور؟ والأهم هل يمكن أن تسيل دموع د.مرسى على المصريين المسحولين منهم والمرشوشين خرطوشًا، والمقتنصين برصاص حماسى حى فى الصدر والبطن، والمفصولى الرقاب فى استاد بورسعيد؟!