إرهاصات ثورة لا تعنى ثورة، كما إرهاصات الحرب لا تعنى بالضرورة حربًا. إرهاص فى اللغة تعنى تباشير الحدث، أو مقدمات، أو الأسباب التى بها سيحدث الحدث. فحينما نقول «إرهاصات ثورة»، تعنى الدوافع والأسباب التى ستنتج ثورة ومقدماتها، وعند آخرين تباشير أو معجزات ما قبل بعث الثورة. وبما أنى معترف أنى من مجاذيب الثورة، المؤمنين بها دائمًا أبدًا مهما حدث، سواء تخاذلت فى أداء أركانها، أو أتممت الأركان وركنت إلى ركن أشاهد، فأستطيع الجزم أن إرهاصات الموجة الأخيرة للثورة قد بدأت، وأن خط بدايتها كان موقعة الاتحادية، التى نحر فيها رفاق وأصدقاء لنا. لا أحب الموت، ولا أتلذذ بمشهد الدماء، فآخر اختبار نفسى لى، كانت معطياته مطمئنة، فبجانب الاكتئاب الدائم، وتوترى الاجتماعى، وبقية الأمراض النفسية المتجمعة نتيجة الزمن، أو جيناتى الوراثية، ما زلت أرغب ولو قليلًا فى الحياة، وأرغب كثيرًا فى الراحة، دون أن أصحو على خبر فقدان رفيق، أو إصابة رفيقة، أو على المستوى الأبسط، أود أن أصحو دون أن أعتل هم ماذا سيحدث خلال الساعة القادمة، وماذا ستكون نتيجته، ولمصلحة مَن ولمَن الأيدى التى تعبث فى مؤخرة هذا الوطن. الركن الأول من دين الثورة هو الاطمئنان، والرضا بها، وعليها. الركن الأول يعنى أن مهما غابت شموس ثورتنا، فستظل شمسها الأم تضىء داخلنا حينما نحتاجها. ستظل رايتها مرفوعة داخلنا، سيظل الحلم، متصلًا، مهما حاول مَن حاول أن يختطفه، ويهرّبه إلى خارج أرض الوطن. الركن الأول، أن نؤمن، فنرضى، أن تطمئن كل جوارحنا إلى أن اليوم الموعود آتٍ وإن عطَّله خوف البشر، وإحباطهم، وسواد أحوالنا جميعًا المعيشية. الركن الأول أن تركن إليها، فتطمئن، فإن استمر قلقك وخوفك، فاذهب وجدِّد إيمانك بها، فهى الباقية وكلنا زائلون، لن يبقى غيرها، وإن اختفت ميادين، وعلت أبواق الغربان على كل شاشات الفضائيات، يقابلهم مهتزون من الناحية الأخرى، يدعون رفع لواء ثورة، هم عاجزون عن التقدم به خطوة دون ارتعاش. أستعير كلمة ناصر «الأيدى المرتعشة لن تقوى على البناء»، وأضيف أن الأيدى المرتعشة ما قوت على الهدم لكى تبنى، ولم تحطّم محظورات الماضى، لتخلق عالمًا جديدًا.. ممكن. الأيدى المرتعشة توعدك بثورة جديدة، كأن هناك أكثر من ثورة، وكأن الثورة القديمة ماتت مثل خالتهم سلمية. الأيدى المرتعشة شاكرين قرروا تأجيل قرار المشاركة فى الانتخابات، والتوافق والقوائم.. إلخ، إلى ما بعد الخامس والعشرين من يناير، مباركين أنتم، كما كنتم وقت مبارك. قلتم ثورة وهرعتم إلى العسكر. قلتم ثورة وشاركتم فى دستور مارس. قلتم ثورة، وانصعتم لمجلس شعب وبعده شورى، وبعده انتخابات رئاسة ودستور جديد، واستفتاء على دستور صدر من جلسة ماخور، رئيسها القاضى المبجل، أجل جلال أمير دولة، وإن استطاع لقبّل قدمه قبل طرف عباءته، لا بها مجلس أمة، ولا دستور، ولا قضاء متطوّر، ليس بها أى شىء سوى قناة إفك إعلامية، وقواعد أمريكية، وشيخ معمم يحلّل ويحرّم. جلسة ماخور، يدفع لهم باليسار، ليقتلونا باليمين، فالذبح يا أسيادى لا يجوز إلا باليمنى. وعند انفضاض المجلس، وإصدار ورق حمامهم المسمى بالدستور، طعنوا بعضهم بحراب الكلام، وأن الاتفاقات لم تنفّذ، ولم يعيّن س رئيسًا للوزراء، وص لم يستلم جائزته فى كونه وزيرًا. فلمن تستمعون؟ لقتلة اختلفت أسماؤهم وانتماءاتهم وجرت بين أيديهم نفس الدماء؟ أم لمرتعشى أرجل وأيدى، يظنون أن كل صيحة هى الموت؟ أخبرناكم من قبل، وسجلت كلماتنا كثيرًا. «الثورة دين جديد، لا قائد لها، ولا زعيم، ولن يكون، الثورة دين ينتشر، وسيظل فى الانتشار، كل مَن ادّعى نبوة هذا الدين كذاب، وكل مَن ادّعى أنه كان يعلم أن دين الثورة سيبعث فى ذلك التوقيت، أيضًا كاذب». لم نكن لنحلم قبل الثورة بأنها ستكون ثورة، وعندما وجدنا أنفسنا فى منتصف الحلم، قفز عليها مَن قفز، وحاول امتطاءها مَن حاول، لكن الكل فانٍ، ويبقى وجه ثورتنا مطهرًا من الدنس، ومن الأنبياء الكاذبين، ومن الزعماء المرتعشين. ستبقى الثورة، سواء نجحت مظاهرات الخامس والعشرين، أو انتهت على لا شىء، سواء انفجرت الأوضاع فى السادس والعشرين، أو السابع، أو الثامن والعشرين «الذى هو بالمناسبة يوم الثورة بالنسبة إلىّ وعيدها الأوحد والأكبر». ستبقى الثورة، وسنوفى أركان دينها، إلى أن تقبض أرواحنا، ونهرب من أجسادنا، إلى عوالم وأجساد أخرى، وعندها، سيكون هناك مؤمنون جدد، لم يشهدوا ما قبل الدين، ووجدوا بعد بعثة الدين، وسيكملون ما نقص منا، وسيزيدون علينا، عندها، يمكن أن تتقلب هياكلنا العظمية فى قبورها بسلام. سلام عليه يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيًّا.. يحيى سلام علىّ يوم ولدت، ويوم أموت، ويوم أبعث حيًّا.. عيسى مشى وحيدًا، ومات وحيدًا، وسيبعث وحيدًا.. أبا ذر. لكى يوجد المسيح المخلص، لا بد من وجود يحيى، فكلنا يحيى، منتظرين قومًا كلهم «المسيح» يأتون بعدنا، نعمدهم، ليملؤوا هم الأرض عدلًا، كما مُلئت جورًا.. ليأت بعدهم قومُ كلهم أبو ذر، ليمجّدوا الصحة التى تأتى بعد المرض، والشبع الآتى بعد الجوع، والحياة التى أتت من الموت. «قال أبو ذر: أحب فى الدنيا ثلاثًا: الجوع، والمرض، والموت. أحب الجوع ليرق قلبى، وأحب المرض ليخف ذنبى، وأحب الموت لألقى ربى». نحن المبشرين - المجذوبين بدين الثورة، بشرنا.. وننتظر التعميد.