تخيّل عزيزى القارئ أنّك تسير فى جنبات ميدان التحرير تثور وتغضب، تدافع وتهجم، وإذ بك تلتقى فجأة بشيخٍ كبيرٍ أسود، لحيته بيضاء، يسرى من وجهه نورٌ لا تعرف منبعه، وسكينة لا تدرى من أين تفجّرت، ثيابه وسماته تدلّ على زهده وفقره، وكلماته لا تنتمى إلى عالم المادة الذى نعيشه، تستمعُ له يصيحُ محذِّراً فى الجموع قائلاً بأعلى صوته: الجوع لا خلاقَ له فاحذروا، لا تدرى فور الاستماع لمقولاته أهو «اشتراكى» بحديثه عن الفقراء والكادحين والثورة التى يستوجب قيامها لمن لا يجد قوت يومه، أم أنه «إسلامى» بكثرة ترديده آياتٍ من القرآن يُدَلِّل بها على ما يقول، وأحاديث من النبى (صلى الله عليه وسلم) كأنه عايش قولها وكان شاهداً عليها من شدة ما تجد عليه من التأثر وهو يقولها، ولا تدرى أيضاً إن كان واحداً من هؤلاء الذين تمتلئ بهم الشوارع ممن يُطلق عليهم «المجاذيب»، وإذ فجأة تكتشف أن الرجل اسمه جندب بن جنادة - أو- «أبو ذرّ الغفارى» نصير الفقراء، وأبو الثوّار!! ما تخيلته أنت الآن -عزيزى- هو ما ستراه على خشبة المسرح عندما تقرّر دخول عرض «أبو الثوّار» للمخرج المبدع ياسر صادق، والمؤلف محمد حسين، فى قراءة موفقة لثورة يناير من خلفية تاريخيّة، ودينيّة أصّل لها العمل، الذى أخذ عن قصة «كيف تركت السيف؟» للكاتب السورى ممدوح عدوان، مزيجٌ رائعٌ يخلط القديم بالحديث فينقلك من مشهدٍ فى «التحرير» لتجد نفسك فجأة فى بيت عثمان، فتعبر من مواجهة شاب ثورى بعسكر مبارك، إلى مواجهة أبو الثوّار مع المروان بن الحكم، وهكذا تنتقل من مشهد لآخر حتى تنسى فى أى العصور أنت، لا يبقى بداخلك شىء إلا إيمانٌ راسخ بضرورة محاربة الظلم والقهر، والانتصار للفقراء والكادحين، حتى ولو كان مصير ذلك الموت أو النفى. العرض الذى أدّاه ببراعة مجموعة من الفنانين - من بينهم المبدع الثائر «كريم مغاورى» - ربّما يرى فيه البعض حالةً من الاصطدام بكثيرٍ مِمّا تربينا عليه خاصةً فيما يتعلّق بمعارضة أبى ذرّ وغيره لسيّدنا عثمان بن عفّان وتصدّيه لسياسات السلطة فى المدينة والشام، خاصة فى سنة الحكم الثانية لعثمان التى اتجه فيها لمنح الهبات والعطايا من بيت مال المسلمين لأقربائه الذين عيّنهم على الولايات والأمصار دون غيرهم، فكان أبوذرّ -كما فى العرض وفى مراجع التاريخ الإسلامى- لا يكفّ عن قول الحقّ والجهر به رغم محاولات إسكاته، فأرسلوه تارة للشام، ونفوه تارة للربذة، وهو فى كلِّ حالاته قائم على الحقِّ قابض على الجمر، إلى أن وصل الحد إلى أن أمر عثمان فنودى فى الناس، ألّا يكلّم أحد أبا ذرّ، فاستجاب الناس وسمعوا إلا «عليّاً» رضى الله عنه وعقيل أخاه والحسن والحسين وعمّار. ويستمرّ برغم ذلك -أبوذرّ- فى السير وحيداً كما بشّر النبى صلى الله عليه وسلّم عنه حينما قال «يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ويشهده عصابته من المؤمنين».، وكأنّ الغربة فى الأوطان، والوحدة فى وسط الناس سمةٌ للثائر أيا ما كان موضعه أو زمنه، فلا يختلف فى ذلك أبوذرّ عن غيره ممن ساروا على دربه، ولم يخشوا مجاهرة الناس بالحقِّ، فطوبى لأبى ذرّ، وطوبى لكلِّ ثائرٍ غريب. «المجد للشهداء.. الحريّة للشعوب»