كان «المدب» الابن الأصغر للسيدة الفاضلة أم ترتر الذى بالكاد يستطيع المشى يجرى فرحا فى الحارة مستمتعا ببرك الماء أو على النحو الأدق بالمستنقعات التى خلفتها الأمطار المتساقطة لعدة أيام على كل أنحاء مصر، وقد استطاع مع عدد من أبناء الحارة الصغار استخدام الماء مع الطين استخداما إبداعيا للتزحلق عليه ولا أجدع ساحة للتزحلق فى أوروبا الإسكندنافية أو الإسكيمو. صحيح أننى كنت معجبا جدا بما يفعله الصغار، ولكننى كنت أشفق عليهم من البرد الشديد والالتهاب الرئوى الذى ينتظرهم، كما كنت أشفق على أمهاتهم بسبب الطين الذى ضيّع معالم ملابسهم المهترئة أصلا بطريقة لن تجدى معها أى مساحيق غسيل مهما حاولت نجمات إعلاناتها إقناعنا بأنها تقضى على أى بقع؛ لأن بقع طين الحارة شىء آخر، ولأن نساء الحارة لا يستخدمن هذه المساحيق من الأصل مكتفيات بالصابون المبشور وطريقة أمهاتنا القديمة والأكثر تطهيرا وهى «الطشت والغلية». حاولت قدر استطاعتى إقناع «المدب» بإنقاذ نفسه والدخول إلى شقتهم ليحتمى من البرد والأمطار المنهمرة بغزارة لكنه لم يعرنى اهتماما بل ضحك بشدة وزاده كلامى حماسا فتزحلق على الطين بمؤخرته بسرعة أكبر مُحدثا قدرا كبيرا من الطرطشة أصابتنى حتى أم رأسى، وهذا ما أضحك «المدب» فوق ضحكه، وأضحك معه أخته «نحمده» التى خرجت من الشقة على صوتى وأنا أحاول إقناعه بالدخول، فلم أجد بُدا من تركه مكانه يلهو فى الطين والجرى حماية لما تبقى من ملابسى نظيفا، وما إن دخلت شقة السيدة الفاضلة أم ترتر اكتشفت سر ضحكة «المدب» وأخته، فقد أرادا أن يخبرانى أن لا فارق أصلا بين الشارع والشقة؛ فسقف الشقة كأنه تحوّل إلى مصفاة أخذت المياه تتساقط منه على حلل ألومنيوم وأطباق بلاستيكية عميقة تم رصّها على الأرض وتتولى «حلاوتهم» حملها كلما امتلأت لترمى ما بها من مياه فى الحمام بعد أن تكون قد وضعت أخرى مكانها، وهكذا طالما استمرت الأمطار فى الهطول، فإن توقفت الأمطار صعدت إلى السطوح الشقيقة الصغرى «غباوة» لتولى إزاحة برك المياه المتكومة بالمسّاحة. سقف شقة «أم ترتر» الذى يتحوّل إلى مصفاة فى فصل الشتاء يتخذ من الأساس أشكالا غرائبية؛ فبعد أن تآكل بفعل الرطوبة والزمن، أسقط أولا طبقة الدهان، ومن بعدها سقطت طبقة المعجون فى أغلب أجزائه، ولحقتها طبقة المحارة، حتى بدأ حديد التسليح فى الظهور فى عدة مناطق من السقف. ورغم محاولات الترقيع التى قام بها عدد من أبناء الحارة الممحراتية الجدعان لإنقاذ السقف من السقوط تماما على رأس «أم ترتر» وأبنائها السبعة، فإن هذه المحاولات لم تترك إلا رقعا متناثرة عشوائية ليس لها دور إلا استكمال اللوحة التشكيلية المرسومة دون أن يكون لهذه الرقع أى دور فى منع الماء من التساقط عبرها إلى أرضية الشقة التى تحولت إلى مستنقع هى الأخرى بفعل البلاط غير المتساوى والمخلوع كثير منه بفعل المياه، بينما نجح «كلبظ» وشقيقاه «بقلظ» وزقلط» فى الإسراع مع بداية سقوط الأمطار فى لم الكليم والحصيرة ووضعهما فوق السرير الذى تم حمايته بدوره بفرش مشمع بلاستيكى عليه! لا أعلم حتى الآن سر الضحكات التى يطلقها أبناء أم ترتر على الرغم من هذه المأساة الكاملة التى يحيونها كل شتاء؛ ولكنها عادتهم دائما، فهم إما يضحكون رغم متاعب الحياة التى لم ترحمهم وخصوصا من بعد هروب والدهم، وإما يتعاركون مع بعضهم البعض لأتفه الأسباب، فلأحتفظ بتعجبى لنفسى بدلا من أن أزيد همومهم. سألت عن أمهم، ولكن الإجابة سرعان ما أتتنى مندفعة، حيث رأيت شبشب أم ترتر الأثير طائرا عبر باب الشقة بسرعة تفوق الصوت، دافعا «المدب» عدة أمتار ليسقط مباشرة فى إحدى الحلل التى تستقبل مياه السقف المتساقطة. كالعادة لا يستطيع أحد مناقشة «أم ترتر» فى أثناء استخدامها شبشبها الطائر، وكل ما عليك فعله حينها أن تشنّف أذنيك بما لذ وطاب من الألفاظ المنتقاة، وكانت هذه المرة من نصيب «المدب» الصغير الذى لا يزيد حجمه بالكاد على حجم الحلة التى سقط فيها. «يعنى إنت يا ابن الهربان مش مكفيك القرف اللى إحنا عايشين فيه رايح تلعبلى فى الطين والمية.. أصل أنا مكفياكم طفح علشان أجيبلك دوا لما يجيلك التهاب رئوى ولا سل ولا بلا أزرق.. ولا الهدمتين اللى حيلتنا بنغسلهم ونستنى جنبهم ينشفوا علشان نلبسهم تانى رايح تطينهوملى وعامللى فيها لعيب باكيناج يا ابن الدايخة».. «لا مؤاخذة ياخويا ماشفتكش.. وإنت مش غريب أصلا.. بس والله ماعارفة أعمل إيه بس؟ وهلاقيها منين ولّا منين.. ياللا الحمد لله..». هكذا وجهت «أم ترتر» حديثها إلىّ، وقبل أن أرد كانت قد خلعت فردة شبشبها الأخرى وأصابت بها مؤخرة «حلاوتهم» التى كانت قد انحنت لتحمل أحد الأطباق الذى امتلأ بمياه الأمطار المتساقطة من السقف، لا أعرف كيف أصابتها بهذه الدقة على الرغم من أنها كانت تنظر ناحيتى! وقبل أن أتعجب انطلق لسانها بوابل من الشتائم ل«حلاوتهم» وأختيها: «... ما هو العيب مش على العيل اللى مابيفهمش العيب على البقر اللى بعلفهم وسايبين أخوهم مغرّق نفسه فى الطين.. إجرى يا موكوسة وسيبك من اللى بتعمليه ده وروحى حمى أخوكى فى الطشت وغيريله بعدها.. أنا كنت معلّقة على ميه سخنة على الوابور إياكش يكون اتطفى عشان أطفيلك حبابى عنيكى دلوقتى... وبعدين فين أخوك البغل اللى بعتاه يجيب عيش من ساعتين.. إياكش يكون ضيّع النص جنيه أحسن أضيّع عمره.. واندهى لاختك تاخد اللبس بتاع أخوكى المطين ده فومين.. وإنتى يا بت يا غباوة اجرى على عمك محمد جوز خالتك أم سامح قوليله ييجى يشوفلنا صرفة فى السقف اللى بقى عامل زى المنخل ده... يووه هو الواد زقلط فين؟». «لا مؤاخذة يا أخويا.. البيت بيتك.. شوفلك حتة ناشفة اقعد فيها».. هكذا قالت «أم ترتر» وتركتنى ومضت، ولما لم أجد أى مكان جاف فى هذه التسونامى التى أصابت الشقة كان علىّ الرحيل.