ليل مظلم.. سماء قاتمة وملبدة بالغيوم.. أمطار تنهمر بدون توقف.. شوارع خالية من المارة.. أصوات كلاب تنبح فى خلفية المشهد البعيدة.. شبابيك مغلقة تنبعث من خلف الشيش بتاعها إضاءات خافتة وباهتة.. أرضية «مزليقة» تماما بسبب انتمائها إلى منطقة عشوائية وغير مسفلتة من تلك المناطق الممتلئة بالحوارى المتداخلة والمتقاطعة والتى إذا أمطرت السماء فيها لمدة ربع ساعة تحولت إلى بركة طين كبيرة.. بنى آدم عنده 12 سنة – دا اللى هو أنا – ينظر من خلف زجاج شباك غرفة صديقه ثم فى ساعة الحائط ثم يتخذ قراره.. «أنا حامشى.. سلام».. يتوقف ممسكا بكتاب «المعاصر» فى «الرياضيات».. ينصحه صديقه.. «يا بنى استنى لما تبطل مطرة».. فينظر له البنى آدم اللى عنده 12 سنة – اللى هو أنا – نظرة ثاقبة.. يلقى بعدها بتساؤله الحاسم والحاد والقاطع والذى يحتوى على إجابته بداخله.. «ولو مابطلتش»؟.. ويعقبه باتجاهه ناحية باب الأوضة.. ويفتحه متجها إلى باب الشقة.. تلك كانت مفردات الموقف فى تلك الليلة الليلاء.. تلك كانت بداية المغامرة. قد لا يكون من المنطق الخروج إلى الشارع فى جو مزفت مثل هذا الجو.. ولكن الانتظار أيضا ليس من المنطق فى شيء.. على أساس أن الأمطار قد تتوقف وقد لا تتوقف.. وكل ما سيكسبه المرء من جراء انتظار توقف الأمطار.. هو زيادة كتلة العجين الطينية التى سوف يكون عليه أن يعبر من خلالها حتى يخرج للشارع الرئيسى المتسفلت.. لهذا.. وطالما كده كده حامشى.. إذن.. فلأمشى الآن.. قبل أن تتدهول الشوارع أكثر.. تلك كانت خلفية تفكيرى أثناء اتخاذ قرارى بالمرواح رغم الجو اللى زى الزفت فى تلك الليلة الليلاء. وقفت أمام باب العمارة لأرى أى الطرق أخف وطأة على مستوى الطين والزلق لأسلكها.. أمامى ثلاثة طرق.. أعرف واحدا منهم فقط.. هو الذى أتيت منه.. وتقريبا هو أطولهم.. لهذا.. اتخذت قرارى الحاسم بضرورة تجربة أحد الطريقين الآخرين على سبيل «التخريمة» و»اختصار الطريق».. وعلى أساس أنى أعرف جيدا طبقة الطين التى ينبغى عليّ أن أعبر خلالها من الطريق الذى أعرفه.. إذن..وطالما طين بطين.. تبقى مش فارقة كتير.. والتخريمة من طريق قد يكون مختصرا مش حتضر فى حاجة.. وهكذا اكتشفت أنه لا يختلف عن الطريق الذى أعرفه.. الحوارى المتقاطعة نفسها.. الطين نفسه.. صوت نباح الكلاب القادم من بعيد نفسه.. الاختلاف الوحيد أننى لم أصل فى الطريق الجديد إلى أى نهاية.. لمت نفسى.. وقررت الرجوع مرة أخرى لأسلك الطريق الذى أعرفه.. إنحنيت مع الحوارى المتقاطعة فى طريق الرجوع.. ولكننى لم أصل إلى منزل صديقى.. لاحظت أننى أعبر من الحوارى نفسها أكثر من مرة.. ثم اكتشفت إنى بالف وأدور حوالين نفسى.. ثم أيقنت فى النهاية أنى.. قد تُهت!مع الوقت بدأت قدماى تعتادان على السير فى طبقة الطين الكثيفة.. وبدأ جسمى يعتاد على الأمطار المنهمرة فوق دماغه.. لم يكن هناك أحد لأسأله.. لهذا.. لم يكن أمامى سوى مواصلة السير حتى أخرج للطريق الأسفلت.. واصلت السير حتيوجدت نفسى فجأة أمام مساحة شاسعة من الأرض الخلا الموحشة.. الآن.. الرؤية باتت أوضح.. الآن أستطيع أن أرى أضواء السيارات من بعيد على الطريق الأسفلت.. نظرت إلى الأرض من أمامى.. كانت طبقة الطين والزلق أضعافا مضاعفة وبدون أى جوانب للطريق أستطيع أن أعبر من عليها.. نظرت إلى الوراء.. إلى الشارع الذى خرجت منه.. وتساءلت بينى وبين نفسى.. هل أعود وأحاول مرة أخرى مع احتمال إنى أفضل ألف وأدور حوالين نفسى.. أم اخترق كل ذلك الطين وكل تلك الأرض الخلا الموحشة وأصل إلى الطريق الأسفلت الذى أراه أمامى على البعد بالفعل؟.. وبعد حوالى دقيقة من التفكير.. كنت قد اتخذت القرار.. وكنت قد بدأت أغوص بقدمى فى طبقة الطين الكثيفة.. تحت الأمطار الغزيرة.. عبر الأرض الخلا الموحشة.. متجها نحو أضواء السيارات البعيدة.. على الطريق! عشت تلك الليله منذ حوالى ربع قرن وكتبتها منذ حوالى أربع سنوات وعادت لتسيطر على تفكيرى مع مذبحة ماسبيرو واستقرت تماما بجميع تفاصيلها فى مخيلتى عقب مشاهدة المؤتمر الصحفى الذى عقده المجلس العسكرى يوم الأربعاء الماضى لكى يخبرنا أنه كحاكم شرعى للبلاد ما يعرفش أى حاجه عن اللى حصل فى البلاد زينا بالظبط وهو ما يؤكد على أنه بالفعل الجيش والشعب إيد واحده فيما يخص عدم المعرفه ! عزيزى الشعب.. ها هى أضواء الطريق الذى نرجوه تلوح لنا من على البعد.. أى نعم أمامنا طبقه كثيفه من الطين الزلق التى ينبغى علينا أن نتخطاها أولا.. إلا أننا بعد أن نتخطاها ونصل للطريق بالفعل.. سوف ننظر وراءنا إلى ما قد تجاوزناه وكنا نظن أننا لن نتجاوزه.. وساعتها حنموت منالضحك.. مش من الرصاص أو الدهس!