كتبت مرارا وتكرارا أن لا استقرار يمكن أن يحدث فى مصر وهناك آلاف الأسر المكلومة التى فقدت أو أصيب أبناؤها فى أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، فلا تأملوا فى استقرار وتتخيلوا تنمية ونهضة يمكن أن تتحقّق على حساب جثث شباب مصر الطاهر البرىء -كما سمّاه رموز النظام السابق-، ولا يعتقد الرئيس ولا جماعته أن أى مسكنات كلامية على طريقة «دم الشهدا فى رقبتى» يمكن أن تنهى المسألة فى خطاب و«كفى الله المؤمنين شر القتال»، «وكل واحد يرجع بيته.. وسيبوا الريس وحكومته يشوفوا شغلهم»، ولا تظن الآلة الإعلامية الإخوانجية حاليا والفلولية سابقا أن الرسالة الساذجة التى لم يملوا تكرارها ستؤتى ثمارها العفنة على طريقة «إيه اللى وداهم هناك.. وهى دى أشكال ثوار.. ودول أصلا بلطجية وممولين وبتحركهم جماعات لا ترغب فى استقرار البلد.. وأن القوى الليبرالية والعلمانية واليسارية الكفرة الملحدين من أنصار البرادعى وحمدين يريدون إفشال المشروع الإسلامى.. وأن هؤلاء يحركهم الفلول وكلاب النظام السابق... إلخ..» من هذه الترّهات التى لا يصح الرد على مطلقيها إلا بما يليق بهم من ألفاظ يمكن استخدامها فى خناقات الشوارع. فكل السادة من جماعة الرئيس الحاكمة أو من أنصارهم من تجار الدين أو من «المطبلاتية» أو من المستفيدين الجدد يصرّون على تغافل الحقيقة، ولا يجدون أسهل من ترديد مقولات النظام السابق الساذجة بجانب قاموسهم التكفيرى الذى أبدعوه زيادة على مقولات النظام البائد القائم، تبريرا لمظاهرات معارضة هنا أو هناك، أو رفضا لظهور أى أصوات معارضة للحاكم الجديد، حتى وهم يعلمون أن هذه الأصوات والمشاركين فى هذه المظاهرات هم أنفسهم من الداعين إلى انتخاب الرئيس مرسى فى انتخابات الإعادة، إما اقتناعا بمشروع نهضة الإخوان الوهمى ودعايات «وليه تنتخب فرد لما ممكن تنتخب مشروع»، أو من «عاصرى الليمون» الذين فضلوا اختيار مرشح الإخوان الاحتياطى الذى لم تقتنع به الجماعة نفسها كمرشح أصلى رفضا لاختيار أحد ذيول النظام السابق، الذى كان آخر رئيس وزراء فى عهد الرئيس المخلوع، أو حتى كانوا من المقاطعين أو المُبطلين لأصواتهم لأنهم لم يقتنعوا بتفضيل الفاشية العسكرية القديمة التى يمثلها شفيق، على الفاشية الدينية التى يمثلها مرسى وجماعته. أما الحقيقة التى يتغافل عنها الجميع سواء من دعاة الاستقرار القدامى من أنصار «حزب الكنبة»، أو من أنصار الاستقرار الجدد فهى أن هناك فاتورة دم لم يتم تسديدها بعد، ولا يبدو فى الأفق أنه سيتم تسديدها فى يوم من الأيام، فقد ضاعت الحقيقة وفسدت التحريات والاستدلالات وتم تدمير الأدلة، وصعد أذناب الجلادين على أكتاف الثورة إلى سُدّة الحكم بعد أن وجد الحاكمون الجدد أنه ليس هناك أفضل منهم لقمع البقية الباقية التى لم تُستَشهد بعد من «شباب الثورة الطاهر البرىء». ولذا فإن فاتورة الدم ما زالت تكبر يوما بعد يوم. فاتورة دم سدّد الشباب ثمنها مقدما وبلا أى مطالب شخصية وإنما مقابل حكم ديمقراطى مدنى رشيد رأوا أن مصر تستحقه مقابل عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، لكن بئس المقابل حصدته أرواحهم، فالأسعار ترتفع أكثر فأكثر يوميا بشكل لم يسبق له مثيل فى تاريخ مصر، والدعم يُلغى بالجملة وبالقطاعى بأوامر عليا من صندوق «مص دم الشعوب الدولى»، وتغوّل غير مسبوق على السلطة القضائية، وإجراءات انتقامية من المحكمة الدستورية العليا، ناهيك عن انحدار الحريات إلى أقصى قاع يمكن أن تبلغه، وبدلا من قمعها بقوانين ترزية مبارك كما كان يتم من قبل يتم الآن قمعها بدستور تفصيلى إقصائى ثم بقوانين قادمة سيخرجها مجلس شورى الجماعة، بجانب عشرات البلاغات المغرضة التى صارت تطارد المعارضين وتجد آذانا منصتة عند النائب الخاص لرئيس الجمهورية، فلا يجد غضاضة من تحويلها إلى التحقيق رغم سذاجة محتواها. فاتورة دم يقابلها ارتفاع للأسعار، وزيادة للضرائب، واتجاه إلى تعويم الجنيه فى هذه الظروف العصيبة، وإلباس السياسات الرأسمالية الجشعة لباسا دينيا عن طريق إضافة كلمة إسلامى أو إسلامية إلى مُسمياتها الحقيقية، وغيرها من وسائل الجماعة الحاكمة لتعويض عجز الموازنة وعجزها فى إدارة شؤون البلاد، وفوق كل ذلك إصرار على تحميل المعارضة الوطنية هذا الفشل. فاتورة دم ما زال الإصرار على تضخيمها يوما بعد يوم بضخ المزيد من دماء شباب الثورة إليها، وربما لن تكون دماء مهند سمير ومحمد المصرى آخر هذه الدماء، فالعدالة ما زالت غائبة، والأمن ما زال نائما، ورئاسة الوزراء فاشلة، ورئاسة الجمهورية غافلة ولا تحاول إلا فرض خطة الجماعة فى التمكين ولو على حساب الوطن بفقرائه وتاريخه وتماسكه وأزهره وقضائه ومستقبله كله، فالمهم أن يتبوأ أفراد الجماعة كل المواقع ويعتلوا كل الكراسى ويسيطروا على كل المناصب بلا أى إمكانيات حقيقية وبلا أى أجندة ملموسة لمشروع وطنى متكامل، بل كل ما قدموه حتى الآن هو مجرد شعارات وردية ونهضة «فنكوشية» وكلمتى «الشريعة الإسلامية» يصدرونها زورا وبهتانا وتدليسا وعجزا فى كل حديثهم ومظاهراتهم وخطبهم التى لا تنتهى، لغسل مخ الشعب، لكننى أبشرهم بسقوط الأقنعة قريبا، فالثورة قادمة، إن لم تكن للمدنيين أو الفقراء فهى ستكون لأرواح الشهداء.