الحنجرة التى انطلقت منذ فترة ليست بعيدة بالهتاف الشهير «الحرية للعريان.. الحرية للإخوان» هى نفسها التى انطلقت يوم 31 أغسطس بالهتاف ضد هيمنة الجماعة وحكم المرشد. صاحب تلك الحنجرة كان كمال خليل الذى ظل يهتف على مدى الأربعين سنة الماضية ضد الأنظمة المتعاقبة من عبد الناصر حتى محمد مرسى مرورا بالسادات ومبارك والمجلس العسكرى حتى أُطلق عليه لقب «مؤذن الثورة». عندما ردد هتافه الشهير «الحرية للإخوان» على سلم نقابة الصحفيين والمحامين ودار القضاء العالى كان كوادر جماعة الإخوان المسلمين فى سجون مبارك يحاكَمون عسكريا ويُعتقَلون بموجب قانون الطوارئ. لم يأبه خليل وقتها بالهجوم والنقد الذى واجهه من خصوم وأصدقاء بسبب تضامنه مع أعضاء جماعة الإخوان وأصر على الاستمرار فى التضامن مع كل مضطهَد. ولكن عندما تقلد قادة الإخوان السلطة تحولت الهتافات من دعم مضطهدى الجماعة إلى الهجوم على السلطة الجديدة ورفضها. وبنفس الطريقة التى هتف بها كمال خليل ضد نظام مبارك ردد هتافاته ضد محمد مرسى ليفتتح فصلا جديدا فى معارضة نظام الحكم. كمال خليل استمر معارضا يساريا على مدار أكثر من أربعين عاما ونزل ضيفا على السجون فى عهد عبد الناصر والسادات ومبارك، فقد سُجن كمال خليل مع طلاب جامعة القاهرة وعمال الحديد والصلب وفلاحى الجيزة والدقهلية وفى معركة القضاة والحركة ضد التطبيع وحتى انطلاق الثورة حيث أُلقى القبض عليه يوم 25 يناير من المظاهرة التى تحركت من شبرا، وظل عضوا فى منظمات اليسار الثورية التى عملت بشكل سرى طوال عهدى السادات ومبارك وعندما انهار الاتحاد السوفييتى وتراجعت معه حركة اليسار فى أغلب أنحاء العالم أخذ كمال خليل فى تأسيس حركة «الاشتراكيين الثوريين» فى مطلع التسعينيات ليبدأ رحلة جديدة من النضال من أجل العدالة الاجتماعية والحرية. وعندما بلغ سن الستين قرر الانسحاب فى هدوء من جماعة الاشتراكيين الثوريين ليترك المجال للكوادر الشابة لتصدُّر المشهد، مطالبا بتطبيق ما تطالب به الحركة فى خارجها على أوضاعها الداخلية، ومؤكدا استمراره فى العمل على مبادئ الاشتراكية الثورية فنال احترام وتقدير المتفقين والمختلفين معه. وفى حواره مع «التحرير» يتحدث كمال خليل عن أسباب معارضته للإخوان بعد دفاعه عنهم ورؤيته لمستقبل الثورة وخططه لبناء جبهة معارضة ضد سلطة الإخوان بهدف استكمال الثورة التى يراها ما زالت مستمرة. ■ أليس غريبا أن تهتف أنت بالذات ضد الإخوان بعد أن كنت تهتف من أجلهم؟ - كنت أهتف لهم وهم فى سجون مبارك وهذا حقهم وعدم التضامن مع أى مضطهد انتهازية. هناك فارق بين الإخوان فى المعارضة والإخوان فى السلطة. الإخوان خارج السلطة فصيل معارض له كل حقوق المعارضة وأى اعتداء على حقه يستدعى التضامن من القوى المؤمنة بالحرية والديمقراطية، مهما كان حجم الخلاف كان هذا موقفنا «أختلف معك فى الرأى ولكنى على استعداد للتضحية بحياتى لتعبر عن رأيك». أما الإخوان فى السلطة فهم يمثلون نظام حكم يحاول الهيمنة والاستحواذ على مقاليد السلطة واستبعاد وعزل باقى القوى التى كانت شريكة فى الثورة. ما يحركنا فى المقام الأول هو المبدأ… الأشخاص والجماعات قد تتغير ولكن يبقى المبدأ واحدا. تضامنّا مع الإخوان فى اضطهادهم واليوم نقف ضدهم وهم فى السلطة. هناك من ناصب الإخوان العداء وهم مضطهدون إرضاءً لنظام مبارك واليوم يسعى لعقد اتفاقات معهم لينال نصيبا من السلطة وهذا سلوك على غير مبدئى. . ■ التحالف مع الإخوان فى السابق جر عليكم هجوما ونقدا عنيفا فالكثيرون اعتبروا الإخوان «قوى ظلامية وأنتم تدعمونهم وتعطونهم الشرعية.. هل تراجع نفسك اليوم وتنتقد تحالفكم السابق معهم؟ - أبدا كانت مواقفنا السابقة على أساس مبدأ، لم ولن يتغير. تقديم الإخوان للمحاكم العسكرية كان استبدادا والصمت عليه دعم للاستبداد. المبدأ الذى تضامنّا مع الإخوان على أساسه هو نفسه المبدأ الذى نرفضهم به اليوم. لقد رفضنا إقصاءهم ونفيهم وقمعهم. وهذا بالضبط ما نرفضه منهم اليوم. نرفض هيمنة الإخوان على الإعلام والتعليم والمحليات وكل مؤسسات الدولة. وقفنا إلى جوارهم عندما كانوا معتقلين واليوم نقف مع المعتقلين الذين يرفض رئيس الجمهورية الإخوانى تحريرهم… لم يتغير موقفنا ولا مبدؤنا ولكن هم تغيروا. ■ تتحدث عن هيمنة الإخوان على السلطة.. ألم تحدث تلك الهيمنة عبر صناديق الانتخاب وبطريقة ديمقراطية؟ - الديمقراطية لا تعنى بالمرة هيمنة طرف. وحصول حزب أو فصيل على أغلبية برلمانية لا ينفى المعارضة وينهى دورها. المعارضة جزء من أى نظام ديمقراطى وشريكة فى النظام وإلا تحول إلى نظام مستبد كما يصنع الإخوان اليوم. ولكن هناك فارق أيضا بين إدارة مؤسسات الدولة والهيمنة عليها. مؤسسات الدولة موجودة لخدمة المجتمع والجميع شركاء فيها. ولكن تحويلها إلى أدوات لخدمة اتجاه فكرى أو سياسى بعينه هذا ما نعنيه بالهيمنة. سيطرة الإخوان على وزارات مثل الإعلام والتعليم والشباب والقوى العاملة ولجنة صياغة الدستور هو توجيه للمجتمع فكريا وثقافيا لصالح الجماعة لا لصالح المجتمع. الديمقراطية ليست توجيه أجهزة ومؤسسات الدولة المملوكة لكل الشعب لخدمة مصالح تيار سياسى بعينه، هذا أقصى درجات الاستبداد وهذا ما حدث فى الأنظمة الشمولية والفاشية. ■ لماذا تعتقد أن الإخوان سيديرون مؤسسات الدولة لصالحهم لا لصالح المجتمع؟ - هذا ما حدث بالفعل فى النقابات المهنية التى سيطر الإخوان عليها من قبل. هذه النقابات أسهمت عبر هيمنة الإخوان عليها فى مد نفوذ الجماعة وخلقت مجالا حيويا لها فى الأوساط المهنية وتم توظيف إمكانيات النقابات وقاعاتها لذلك ولكن لم يطرأ تحسُّن على أوضاع أعضاء تلك النقابات جراء هيمنة الإخوان عليها، بالعكس ساءت أوضاع المهنيين، وهذا نموذج على توظيف المؤسسات لخدمة الجماعة لا المجتمع، ولكن الأهم من كل ذلك أنه لا يمكن اعتبار وصول الإخوان للسلطة تم بطريقة ديمقراطية. صناديق الانتخابات التى فتحت بعد الثورة منذ الاستفتاء على الإعلان الدستورى وحتى الرئاسة لم تكن ديمقراطية. الانتخابات تحت حكم العسكر واستخدام المنابر فى الدعاية الانتخابية وحتى تكفير المنافسين واستخدام الرشاوى الانتخابية والعثور على أجولة مليئة ببطاقات الرقم القومى وإدارة لجنة من رجال مبارك للانتخابات الرئاسية وتحكمها فى الترشيح.. كل تلك وغيرها مظاهر عدم شفافية للعملية الانتخابية. ومع ذلك نجد أن شعبية الإخوان آخذة فى التراجع فى صناديق الانتخابات. فقد حصلوا فى انتخابات الرئاسة فى الجولة الأولى على أقل من ستة ملايين صوت. وهو أقل كثيرا من الأصوات التى حصلوا عليها فى الانتخابات البرلمانية. وما أضيف إلى مرسى فى جولة الإعادة يفوق ما حصل عليه فى الجولة الأولى وهى أصوات قوى الثورة التى كانت تقف ضد صعود شفيق. نعم ونحن نرفض هذه المواقف كليا نحن لم نعقد أى صفقات لا مع السلطة ولا حتى مع المعارضة. عقدنا تحالفات كفاحية تتفق مع مبادئنا مع قوى المعارضة. ولكننا رفضنا دائما الصفقات التى تعقدها بعض القوى للحصول على مكاسب وهاجمناها بشدة وما زلنا نرفضها. ■ هل يمكن اعتبار مظاهرة 31 أغسطس إعلان ميلاد جديد لليسار؟ - لا، مظاهرة 31 أغسطس لم تكن مظاهرة يسارية بالمعنى الشائع. فحتى إذا كان أغلب المشاركين فيها من اليسار فإنها لم تكن للدفاع عن اليسار أو تقتصر على رفع مطالب اليسار. المظاهرة كانت ترفع مطالب الثورة واليسار جزء من قوى الثورة وشارك فى المظاهرة مجموعات وأفراد لا ينتمون إلى اليسار. ما يجب التفكير فيه اليوم هو بناء جبهة موحدة لقوى الثورة التى لا تدخل فى تحالف مع الإخوان من أجل اقتسام السلطة. خصوصا بعد أن أخلف مرسى أكثر من وعد. وعد مرسى بحكومة مستقلة عن الإخوان وبها كفاءات وطنية وجاءت حكومة إخوانية. قال دم الشهداء أمانة فى عنقى ثم أعطى خروجا آمنا للمشير وعنان. وعد بفريق رئاسى يمثل الجميع ثم أعطى الأغلبية النافذة للإسلاميين. ■ أليس القول بمنحه فرصة أمرا وجيها فهو لم يكمل المئة يوم حتى الآن؟ - مشكلتنا ليست فى التباطؤ، ولكن ما نراه أن مرسى والإخوان يسيرون فى الاتجاه العكسى، مثلا التفاوض على قرض من صندوق النقد الدولى، هذه نفس سياسة مبارك التى تعنى تطبيق شروط صندوق النقد المنحازة إلى الأغنياء على حساب الفقراء. هذا أمر لا يحتاج إلى مهلة لتعرف طبيعة التوجه الذى انكشف باصطحاب مرسى رجال أعمال مبارك فى رحلته إلى الصين. كذلك ما الوقت الذى يحتاج إليه لإطلاق سراح سجناء الثورة وضباط 8 أبريل خصوصا أنه أطلق بالفعل سراح سجناء إسلاميين. هذا انحياز واضح. هناك خطوات لا تحتاج إلى مهلة زمنية ولكنها تكشف توجُّه النظام القائم. إجراءات بسيطة قد لا تحرز تأثيرا كبيرا ولكنها ستبعث برسالة واضحة إلى قطاعات واسعة من البسطاء الذين لم يجنوا أى مكاسب من الثورة حتى الآن. عودة الشركات التى حكم القضاء ببطلان خصخصتها لا يحتاج إلا إلى تنفيذ حكم القضاء. الحد الأدنى والحد الأقصى للأجور حتى لو لم يطبَّق فورا ولكن استشعار أى جدية فى التعامل معه سيكون رسالة قوية وفعالة إلى ملايين العمال. وهذا ما لم يحدث ولكن ما حدث العكس. ■ تعنى أن نظام الحكم الآن لا يحقق طموحات الثورة؟ - أعنى أن النظام لم يتغير. الإخوان يعيدون إنتاج نظام مبارك بأشخاص مختلفين ولكن بنفس الآليات والسياسات. ولكن إذا كانت الثورة لم تتمكن بعد من تغيير نظام مبارك فقد تمكنت من تغيير الشعب. ■ ماذا عن الخطوات التالية؟ - الدستور من أهم المعارك القادمة، لا يمكن أن يُترَك وضع الدستور للجنة مشكَّلة من جهة منحلة ويهيمن عليها تيار واحد. هذا لأن الدستور حق للمجتمع ولا ينبغى العبث به أو تركه لمصالح وأهواء اتجاه بعينه. كان شعار «الدستور أولا» صحيحا، وكان ينبغى أن تكون لجنة صياغة الدستور منتخَبة بشكل مباشر من الشعب لا من مجلس تم حله بعد ذلك وعلينا العمل الآن لإنقاذ الدستور. ■ نجاح مظاهرة 31 أغسطس حفّز بالتأكيد على القيام بفاعليات جديدة.. ما تلك الفاعليات؟ - لا ينبغى الاعتماد فقط على التحركات المركزية فى التحرير والعاصمة، ستكون هناك تحركات فى الأحياء والمحافظات على المطالب المباشرة والمطالب العامة أيضا مثل المظاهرات التى كانت ضد قرض صندوق النقد. وبالتأكيد ستكون محطة مرور مئة يوم على تسلُّم مرسى السلطة محطة مهمة والتى ستوافق 10/ 10 القادم ولكن لن يتم الإعلان عنها إلا بعد التنسيق بين القوى المشاركة. ■ لماذا تعتقد ذلك فى حين أنه لم يمر وقت طويل على تسلم مرسى للسلطة؟ - كما قلت إن مواقف الحكومة المتتالية لا تعنى مجرد عجزها عن تحقيق آمال وطموحات القطاعات الواسعة من المجتمع. ولكن تتجه أصلا إلى السير عكس تلك الطموحات. فمثلا الإخوان وقفوا ضد إضرابات العمال خصوصا عمال شركة «النيل لحلج الأقطان» واتهموهم بأنهم فلول.. فمثلا اعتبر الخطاب الاقتصادى للإخوان الفوائد البنكية ربا. ولكن لماذا لم يسقط تلك الفوائد الربوية عن صغار المقترضين من الفلاحين والفقراء أصحاب المشاريع الصغيرة والقروض المتناهية فى الصغر الذين يضطرون إلى سداد أضعاف قيمة القروض بعد إضافة الفوائد. وكيف تحولت الفتاوى بتحريم فوائد القروض إلى تحليل لها بعد الدخول فى مفاوضات مع صندوق النقد الدولى؟! هذه الأمور تنال من مصداقية الجماعة التى بنت خطابها على مغازلة المشاعر الدينية للبسطاء واستغلالها وتنكشف عندما تكون فى مواقع صنع القرار وتقوم بعمل ما كانت تحرّمه من قبل للحفاظ على السلطة وتحقيق مصالحها. ولكن هذا لا يكفى وحده فنظام مبارك استطاع البقاء طويلا ليس بفضل قوته ولكن بسبب ضعف معارضيه وتفتتهم. وعندما توحدت قوى المعارضة أودعت مبارك السجن. ولن تعود الثورة إلى مسارها وتبدأ فى تحقيق أهدافها إلا إذا توحدت قوى الثورة خلف مطالب الجماهير فى جبهة ثورية متحدة.