أزعم أننى بحمد الله صاحب مصطح «الرشوة السياسية» فى أثناء أدائى البرلمانى (2005/ 2010). حيث وقفت كاشفا تواطؤ الحكومة فى منح نواب الحزب الوطنى -المنحل- مبلغ 100 ألف جنيه عام 2006 لشراء تأييدهم لها فى البرلمان؟ وهو ما اعتبرته آنذاك «رشوة سياسية». واستمر المسلسل كل عام حيث ارتفعت الرشوة إلى 250 ألف جنيه لكل عضو فى مجلسى الشعب والشورى، ليصل إجمالى ما صرفته الحكومة نحو مليار جنيه مجاملة لنواب الحزب الوطنى لتمكينهم من مواجهة «الإخوان المسلمين» فى جميع الدوائر بإعادة تقديم هذه المبالغ كرشاوى للناخبين!! ثم تكررت هذه الرشاوى فى العلاج على نفقة الدولة، وفى الوظائف الحكومية لأنصار نواب الوطنى، وفى منح وظائف لنواب فى الحكومة بالمخالفة للدستور وقانون مجلس الشعب ولائحته ومجلس الشورى ولائحته!! وهو ما سميته آنذاك «نواب الوظائف الحكومية»، وهى رشاوى سياسية مباشرة، فضلا عن ذلك الرشاوى لرجال الأعمال النواب فى المجلسين من أراض ورخص أسمنت وحديد ومميزات ضرائبية.. إلخ، واستطعت كشف غالبية هذه الأنواع المختلفة للرشاوى السياسية من خلال 74 استجوابا، وعشرات من طلبات الإحاطة والبيانات العاجلة وغيرها، وأوقفت ما استطعت، وأبرزها إلغاء تعيين محمد إبراهيم سليمان رئيسا لشركة بترول فى يوليو 2009، ورد جميع ما تقاضاه من أموال، وإلغاء تعيين رضا وهدان رئيسا لشركة السوبرجيت ورد جميع ما تقاضاه، وفقا لفتاوى الجمعية العمومية للفتوى والتشريع، ولم يتم استكمال إلغاء قرارات التعيين لنحو 25 نائبا آخرين لتدخلات للحماية، ولانتهاء مدة عضويتى بمجلس الشعب فى 12 ديسمبر 2010. وقامت الثورة بعد إصرار الحزب الوطنى ورئيس الدولة المخلوع حسنى مبارك على تزوير إرادة الشعب وإسقاط جماعى لكل رموز المعارضة التى كشفت الفساد طوال خمس سنوات، وأعلن الشعب فى الثورة استهداف الفساد واقتلاعه وخلق مجتمع الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ومن ثم فإن تكرار ما كان يحدث فى عهد النظام الفاسد والمستبد من ظواهر للفساد السياسى ومن أشكاله تقديم الرشاوى السياسية للمكافأة والمجاملة بهدف شراء الذمم وتأميم إرادة الأشخاص وتكريس الانتهازية، ما هو إلا إعادة إنتاج لهذا النظام وبنفس آلياته، كأن الثورة لم تقم أصلا. فى هذا السياق فإن القراءة السياسية الموضوعية حول الدستور وكيفية تمريره، والاستفتاء عليه وما جرى فيه يكشف بوضوح عن عدة نتائج، هى: 1- أن أكثر من ثلثى الشعب المصرى (الناخبون المقيدون فى الجداول الانتخابية فوق 18 سنة) وبنسبة 67٫2٪، رفضوا المشاركة فى استفتاء (15/12، 22/12) وقاطعوا عملية التصويت مما يفقد هذا الدستور شرعيته السياسية، أى فقدانه القبول الجماهيرى الواسع وهو مقدمة لإسقاطه فى أقرب وقت ممكن. 2- أن الذين قالوا «نعم» من الثلث الذى شارك (32٫8٪)، لم تتجاوز نسبتهم 63٫8٪ مقابل 36٫2٪ قالوا «لا»، وهو ما يعكس تراجعا عمن قالوا «نعم» للتعديلات الدستورية فى مارس 2011، وكانت نسبتهم 77٫2٪، وتزايدا لمن قالوا «لا» وكانت نسبتهم 22٫8٪، الأمر الذى يؤكد تزايد الوعى العام لدى جماهير الشعب وعدم تأثر نسبة كبيرة بالرشاوى السياسية التى قدمت فى الاستفتاءين وفى الانتخابات البينية (شعب/ شورى/ رئاسة). 3- أن التحليل السياسى لمن قالوا «نعم»، يشير إلى ترجيح ثلاثة أسباب (الرشاوى السياسية للناخبين، والتوظيف السياسى للدين وربطه بالاستقرار الأكيد، والاقتناع من البعض -وهم قلة- بأن هذا الدستور هو أفضل ما يمكن فى هذه المرحلة!!) ومن ثم فإن استمرار تقديم الرشاوى من تيارات «المتأسلمين» وفى مقدمتهم الإخوان، الذين كانوا يمثلون المعارضة لنظام مبارك، يضع علامات استفهام كبرى حول توجهات هؤلاء فى المستقبل. وعلى الجانب الآخر، فإن «شرعية الغاب والقوة» تسير فى طريقها غير عابئة بالمعارضة وبشباب الثورة، وتتمسح هذه الشرعية اللا ثورية، بالثورة وهو ما ظهر فى خطاب مرسى من وراء الأبواب المغلقة ليعلن أن الدستور جاء معبرا عن روح 25 يناير، وتجاهل أنه يحقق مصلحته السياسية وجماعته الإخوانية وأنصاره من سلفيين وجماعات إسلامية، وهى السبب الرئيسى لتوتير المجتمع وترويع المواطنين، وإهدار سيادة القانون والدستور، ولعل فى حصار المحكمة الدستورية، ومجلس الدولة، ومدينة الإنتاج الإعلامى، خير دليل على ذلك. فضلا عن ذلك، فإن الرشاوى السياسية من الرئيس مرسى وجماعته، قدمت أولا فى تعيين أكثر من ثلث أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور فى مناصب حكومية لضمان تصويتهم على تمرير الدستور الإخوانى، وفى مقدمتهم رئيس الجمعية، الذى عين فى منصب رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان، وفى مقدمة مهامه الإشراف والرقابة على استفتاء الدستور!! كما قدمت الرشاوى السياسية بتعيين (13) عضوا من التأسيسية فى مجلس الشورى الباطل دستوريا، وكذلك تعيين آخرين من أنصار الإخوان وأعوانهم لضمان تمرير التشريعات المكملة للدستور الباطل! فضلا عن منحهم المزايا المادية والمعنوية!! والأغرب أنهم يقولون عن هذه الاختيارات إنها نتاج الحوار المجتمعى الذى يقوده السيد/ محمود مكى (نائب الرئيس المعزول بحكم الدستور)!!، وهو حوار بين أهل البيت الواحد (الإخوان وأنصارهم). ترى عزيزى القارئ، عندما يتصدر المشهد مثل هذه «القبيلة السياسية» المتمثلة فى جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها، ويتحركون فى المجتمع بمنطق القوى والاستهانة بالآخرين، ويستخدمون نفس آليات نظام مبارك المخلوع من تقديمهم الرشاوى السياسية على جميع الأصعدة، فهل هؤلاء يمثلون ثورة شعبية قام بها كل أطياف الشعب بلا استثناء؟! أم أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم ومصالحهم؟! وهل لدى هؤلاء رؤية جديدة لدعم الصالح الوطنى وتحقيق مصالح الشعب والثورة، أم أنهم يمثلون الوجه الآخر لنظام مبارك وامتدادا له؟! يبدو أن نظام مبارك لا يتمثل فى رموز الحكم، بل أيضا فى رموز المعارضة الكبرى وفى المقدمة «الإخوان المتأسلمين»، ولذلك فإن إسقاط نظام مبارك كمطلب ثورى لم يعد يقتصر على من كانوا فى الحكم ولكن على من كانوا يعارضونه، خصوصا الإخوان، لأنهم الوجه الآخر لهذا النظام، والدليل جملة ممارساتهم فى أثناء الثورة وبعدها وللآن، ومع ذلك الثورة مستمرة وستنتصر بإذن الله.. وما زال الحوار متصلا.