70٪ من الناخبين الذين كان لهم حق التصويت على استفتاء مشروع الدستور فى محافظات المرحلة الأولى أعطوا ظهورهم له وتجاهلوه تماما. هذه حقيقة مطلقة، ربما منع السفر بعضَهم من الذهاب إلى موطنه الانتخابى الأصلى، وربما وقف البعض ساعات فى طابور طويل أمام باب اللجنة ثم رحل عندما يئس من الإدلاء بصوته بسبب التعب أو الانشغال بأمور الحياة اليومية كالأكل والشرب وتربية الأبناء. المهم أن 70% حسب الإحصائيات الرسمية للجنة العليا المشرفة على الاستفتاء لم يصوّتوا من الأساس ليصبح بذلك هذا الاستفتاء هو الأقل من حيث المشاركة على الرغم من أهميته القصوى لتاريخ ومستقبل مصر، وتلك أيضا حقيقة مطلقة. فلا تنخدع إذن بمانشيتات صحف حكومية أو حزبية للتيار السياسى المهيمن على حكم مصر قالت إن الإقبال على التصويت بهر العالم، إلى آخر هذه الخزعبلات التى اعتدناها من صحف الحكام. أما الطوابير فكانت حقيقة مطلقة أيضا فى أغلب اللجان الانتخابية فى محافظات المرحلة الأولى العشر، لكن السبب الحقيقى لها هو قلة عدد القضاة المشرفين على الاستفتاء إلى الحد الذى اضطر اللجنة العليا إلى دمج العديد من الصناديق واللجان معا، مما جعل تلك اللجان تكاد تنفجر من كثرة المصوتين بها على الرغم من قلة عددهم مقارنة بعدد المقيدين فيها من الأساس، ولو قرر جميع من يحق لهم التصويت الذهاب إلى اللجان الانتخابية لما انتهى التصويت، ولو تم مد موعد غلق اللجان 48 ساعة أخرى، ناهيك بالتباطؤ الواضح والصريح الذى جعل كثيرين ينصرفون قبل الإدلاء بأصواتهم. التزوير فى الانتخابات والاستفتاءات أيضا حقيقة مطلقة فى تاريخ مصر. ولو أقسم لك أحدهم أنه لم تحدث حالة تزوير أو تجاوز واحدة فى آلاف اللجان التى دار فيها الاستفتاء فلتقْسم أنت أيضا وأنت مرتاح الضمير بأنه كاذب، فلم يحكمنا ملائكة بعد، ولم يشرف على لجاننا الانتخابية أنبياء لنقول إن عصر التزوير وتزييف إرادة الناخبين ذهب بغير عودة، فما دام ظل العنصر البشرى هو المُهيمن على عملية الانتخابات والاستفتاءات سيظل التزوير قاسما مشتركا أكبر بين هذه الانتخابات والاستفتاءات، لأن النفس أمّارة بالسوء من جانب، ولأن الطرف الحاكم والمنظّم لأى عملية تصويتية سيبذل كل ما يستطيع من جهد لإثبات أن وجهة نظره وقيادته للأمور هى الصحيحة دومًا، وأنه يعرف مصلحة الشعب أكثر من الشعب نفسه لو اعترض عليه، والأهم لأن التيار السياسى الحاكم فى مصر الآن يستحلّ أى فعل مهما كان غير أخلاقى تبريرا لحكم يراه أقرب إلى الحكم الإلهى، وبالتالى يفعل كل ما لا يتسق مع تعليمات الدين للوصول إلى الحكم الدينى، وهكذا فعل فى كل الانتخابات والانتخابات السابقة حتى تلك التى لم يكن يشرف عليها، وهكذا فعل مثله كل حكام مصر عبر تاريخها المديد بغض النظر عن خلفياتهم السياسية، ولذا لم تخرج نتيجة أى استفتاء فى تاريخنا رافضة لذلك الاستفتاء. 44% -تقريبا- من مجموع الأصوات الصحيحة فى الاستفتاء فى محافظات المرحلة الأولى العشر رفضوا الدستور تماما. هذه أيضا حقيقة مطلقة، بغض النظر عن كل الأقاويل والإثباتات التى أكدت التجاوزات فى تلك المرحلة التى تبين أن نسبة الرفض كانت أعلى من ذلك بكثير، وهى النسبة التى لو رضينا بها على عواهنها لاستنتجنا أيضا حقيقة أخرى مطلقة، هى أن المصريين لم يعودوا على استعداد أبدا لتسليم مقدراتهم تسليما مطلقا لأى حاكم مهما كان، ومهما داعب هذا الحاكم أحلام هذا الشعب بحديث مغلوط عن الاستقرار والبناء والرخاء والجنة المنتظرة فى الدنيا والآخرة. حقيقة مطلقة أخرى يمكن استنتاجها مما رأيناه قبل وفى أثناء الاستفتاء بمرحلتيه، هى أننا لم نكن بصدد استفتاء على دستور مصر فى السنوات المقبلة، وإنما كنا نُستفتَى على مدى رضانا أو سخطنا على أداء محمد مرسى والإخوان فى حكم مصر طوال الشهور الماضية. فكلنا يعلم أن نسبة من قرؤوا مشروع الدستور كاملا لا تكاد تتخطى 5% ممن يحق لهم التصويت عليه، واكتفت النسبة الباقية بتبنّى مواقف شخصيات أو أحزاب أو جماعات أو شيوخ تثق برأيها. فهناك من قال «لا» لأنه يكره الإخوان وتيارات الإسلام السياسى فى المطلق، وهناك من قال «نعم» لأنه يثق بالإخوان وتيارات الإسلام السياسى فى المطلق، وهناك من قال «نعم» من أجل الجنة، وهناك من قال «لا» من أجل مدنية الدولة، وهناك من قال «نعم» على الرغم من أنه لا يحب الإخوان لكن لأنه يأمل حقًّا فى استقرار غائب ودغدغت مشاعره إعلانات «نعم للدستور علشان العجلة تدور». المهم أن عدد من قالوا «نعم» أو «لا» بناء على موقف مدروس لا يكادون يُذكرون. حقيقة مطلقة جديدة أكدتها عملية الاستفتاء وما قبلها من مليونيات مؤيدة ومعارضة، هى أن التصويت سواء جاء ب«نعم» أو «لا» لن تشهد مصر أى دوران لأى عجل، ولن تشهد أى استقرار قريب. ليس تشاؤمًا وإنما قراءة للواقع أظنها واضحة للجميع، هى أنه توجد حالة شقاق وانقسام واضحة فى المجتمع المصرى وتحديدا منذ إصدار محمد مرسى إعلانه الأول وإصراره عليه، ثم تبنيه خطاب جماعة الإخوان المسلمين فى أحداث قصر الاتحادية الدموية، فأصبحنا موالاة ومعارضة على الطريقة اللبنانية. وأكاد أجزم أيضا أن أى حوار بين ممثلى القوى الوطنية لن يجدى فى المرحلة المقبلة لأن لا أحد يملك الاستعداد للتنازل عما يراه حقا مطلقا. حقيقة مطلقة أخيرة أرصدها وأؤكدها هى أنه لا توجد حقائق مطلقة، بل كلها وجهات نظر تقبل الصواب والخطأ حتى لو اعتقدت واعتقد غيرى أن ما يعتقدون هو الحقيقة المطلقة.