كان جمعنا على المقهى المتواضع يقلّب ككل ليلة فى صفحات هموم الوطن ومآسيه التى كلما ظننا أن الخلاص منها بات عند أطراف أصابعنا صدمتنا حقيقة أنها تزداد ثقلا واستفحالا.. ولأن نسبة المبدعين والفنانين تفوقت فى الصحبة الحلوة فى تلك الليلة على نسبة أهل الإعلام والسياسة فإن حديث الهموم تسرب بسرعة إلى موضوع البؤس الشامل، الذى تركه نظام «المخلوع وولده» مستفحلا ومتفشيا فى المجتمع، فأضحى بيئة خصبة للتأخر ومنصة انطلقت منها «عصابة الشر» الفاشية لكى تجهض ثورة 25 يناير وتجردها من كل أهدافها التحررية والنهضوية، وتعافر لبناء نظام أكثر بشاعة من سابقه وأشد عنفا وعفنا. ولولا أن الشعب المصرى استعان بميراث حضارته الضاربة فى أعمق أعماق التاريخ وصنع معجزة 30 يونيو لكانت الكارثة اكتملت، وهبطنا إلى قاع مستنقع تخلف وتأخر وانحطاط عقلى وروحى وأخلاقى ربما لم نكن نستطيع النجاة منه قبل مئة سنة على الأقل. اجتمعت الصحبة على أن المقاومة الضارية الباسلة التى يبديها مجتمعنا حاليا فى مواجهة الشياطين أعداء الحياة لا يجب أن تبقى فى حدود الكفاح السياسى والمواجهة الأمنية للسفاحين فحسب، إنما لا بد من إقحام سلاح الإبداع والثقافة الراقية فى تلك المعركة المصيرية، وقد تبارى أصدقاء كبار (قيمة وقامة) فى اجتراح فيض من أفكار عملية وعبقرية فى بساطتها تدور كلها حول كيفية المقاومة باستثارة نوازع الإبداع لدى جماهير البؤساء وتدريبهم على الحس بالجمال بدل تركهم نهبا لوحوش القبح والتخلف والجهالة، وقد استوقفنى من بين هذا الفيض حكاية رائعة حكاها صديقى الموسيقار النابه هشام جبر، وسأنقلها عنه حالا: الحكاية وقعت فى فنزويلا ، وهو بلد ربما كان حتى وقت قريب جدا أفقر وأكثر تعاسة منا بكثير.. وملخص الحكاية أن رجلا عبقريا مخلصا لوطنه هو الاقتصادى والموسيقى خوزيه أنطونيو أبريو أطلق فى سبعينيات القرن الماضى حركة فنية تقوم على التطوع لإنقاذ الأطفال الفقراء والمعدمين (أطفال الشوارع تحديدا) من الانزلاق الحتمى إلى هاوية الجريمة، وذلك عبر تعليم فن الموسيقى وإنشاء أوركسترات للأطفال والشباب، ورغم أن البعض قد يرى فى هذه الفكرة نوعا من الرومانسية، وأن فيها شيئا يشبه دعوة الشعب الجائع لكى يأكل الجاتوه بدلا من الخبز، لكن الحقائق والأرقام التى ستقرؤها حالا تنطق بعكس ذلك بالمرة. فى عام 1975 أسس أبريو حركته التى سماها الموسيقى الاجتماعية ، واستطاع المحافظة عليها وإبقاءها حية وفاعلة حتى الآن، وتنطلق هذه الحركة من إيمان عميق لدى هذا الموسيقار العبقرى بأن تنظيم فرق الأوركسترا يجسد المجتمع المثالى، إذ تسود فيه قيم إيجابية لا غنى عنها مثل التعاون، والعمل الجماعى، والانضباط التام، والشعور بالمسؤولية تجاه الآخر، وعليه فإنه كلما كان انخراط الأطفال فى الأوركسترا فى سن أصغر، كان بمقدورهم أن يستقوا ويتشربوا تلك المُثل والقيم المجتمعية بشكل أكبر. واعتمدت الحركة لتنفيذ أهدافها على برنامج مدروس ومبتكر شاع باسم إل سيستيما جرى تنفيذه فى المناطق والأحياء الأكثر فقرا، ولم يكن من ضمن أهدافه تخريج أجيال من الموسيقيين المحترفين، إنما استخدام تأثير الموسيقى الفعال فى تهذيب النفس وكبح الميل نحو العنف وتحفيز المشاعر الإيجابية الراقية لدى هؤلاء الصغار المعدمين. لكن لماذا اختار خوزيه أبريو الموسيقى الكلاسيكية بالذات؟! يقول مجيبا: الراديو والتليفزيون يذيعان الموسيقى الدارجة فى المجتمع بلا انقطاع، وقد أضحت بسبب الإلحاح شيئا يشبه (الموسيقى التصويرية) المصاحبة لحياة البؤس والعنف والمهانة التى يعيشها هؤلاء الفقراء الصغار .. ويمضى أبريو قائلا: إن ما يحتاج إليه الأطفال هو موسيقى مختلفة تفتح لهم نافذة على عالم آخر بما يجعل الطفل الغلبان يدرك أن هناك واقعا مغايرا للواقع الأليم الذى يكابده . نجح أبريو فى إقناع الحكومة بتمويل أوركسترا إل سيستيما بعدما حقق هذا الأخير فوزا ساحقا فى مسابقة عالمية أجريت فى اسكتلندا عام 1977، وقد حرص الموسيقار منفذ البرنامج وصاحبه على إلحاق مشروعه بوزارة التضامن الاجتماعى، مؤكدا بذلك طابعه الأصلى كمشروع للخدمة والتطوير المجتمعى، ونافيا عنه كذلك صفة أفكار الصفوة ، إضافة إلى إبعاده عن وزارة الثقافة، تلك التى تكون أولى ضحايا خفض الميزانيات وقت الشدائد. بدأ أبريو فى تنفيذ مشروعه بتعليم وتدريب 11 طفلا فى أحد الجراجات المهجورة فى العاصمة كاراكاس ، وقد وعد هؤلاء الأطفال فى يومهم الأول بأنهم سوف يُنشئون أوركسترا على مستوى عالمى .. وهو وعد تحقق فعلا، فالآن وبعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاما، فإن فنزويلا الفقيرة صارت تمتلك ما يزيد على 200 أوركسترا للشباب، و60 أوركسترا للأطفال، و30 آخرين للمحترفين، منها اثنتان على الأقل تتمتعان بمستوى عالمى وتتخاطفهما أشهَر دور الأوبرا وقاعات الكونسير فى العالم. وأختم بأن أوركسترا سيمون بوليفار السيمفونى الذى أغلب أعضائه شباب من خلفيات مجتمعية شديدة البؤس (آثاره ظاهرة بوضوح على وجوه هؤلاء العازفين) أضحى العام الماضى أكبر أوركسترا فى العالم من حيث عدد التعاقدات التى أبرمت معه لتقديم حفلات خارجية!!