كان قد جمعنا على المقهى المتواضع يُقلِّب ككل ليلة فى كتاب هموم الوطن ومآسيه التى كلما ظننَّا أن الخلاص منها بات عند أطراف أصابعنا صدمتنا حقيقة أنها تزداد ثقلا واستفحالا.. ولأن نسبة المبدعين والفنانين تفوقت فى الصحبة الحلوة تلك الليلة على نسبة أهل الإعلام والسياسة فإن حديث الهموم تسرَّب بسرعة إلى موضوع البؤس الشامل الذى تركه نظام «المخلوع وولده» مستفحلا ومتفشِّيًا فى المجتمع فأضحى بيئة خصبة للتأخر، وهو الآن السلاح الأكثر فتكا وفاعلية فى ترسانة جماعات الشر والتخلف والظلام بينما هى تعافر وتحارب لإجهاض ثورة المصريين وسحق أهدافها التحررية والنهضوية النبيلة، وتسعى لإقامة نظام فاشى أشد عنفا وعفنا من سابقه، يكرّس العدم والفقر والانحطاط العقلى والروحى والأخلاقى. اجتمعت الصحبة على أن المقاومة الضارية الباسلة التى يبديها مجتمعنا حاليا فى مواجهة أطماع «حِلف الشر» يجب أن لا تبقى فى حدود الكفاح السياسى وإنما لا بد من إقحام سلاح الإبداع والثقافة الراقية فى تلك المعركة المصيرية، وقد تبارى أصدقاء كبار (قيمةً وقامةً) فى اجتراح فيض من أفكار عملية وعبقرية فى بساطتها تدور كلها حول كيفية المقاومة باستثارة نوازع الإبداع لدى جماهير البؤساء بدل تركهم نهبًا لوحوش التخلف والجهالة، وقد استوقفنى من بين هذا الفيض حكاية رائعة حكاها صديقى الموسيقار النابه هشام جبر، فاستأذنته فى كتابتها ففعل وأرسلها إلىّ مشكورا، وسأترك لها حالا ما تبقى من هذه السطور: كيف يمكن لموسيقى من أمثالى أن يسهم فى المعركة الحالية لإنقاذ الوطن وشعبه؟! هذا هو السؤال الذى سألته لنفسى، ووجدت إجابته فى حكاية آتية من بلد ربما كان أفقر وأكثر تعاسة منا بكثير، أقصد دولة فنزويلا.. إنها حكاية تجربة شديدة الإبهار والتفرد وُلدت فى رأس رجل عبقرى ومخلص لوطنه هو الاقتصادى والموسيقى خوزيه أنطونيو أبريو الذى أطلق حركة فنية تقوم على التطوع لإنقاذ الأطفال الفقراء والمعدمين (أطفال الشوارع تحديدا) من الانزلاق الحتمى إلى هاوية الجريمة، وذلك عبر تعليم فن الموسيقى وإنشاء أوركسترات للأطفال والشباب، ورغم أن البعض قد يرى فى هذه الفكرة نوعًا من الرومانسية ونخبوية تشبه مقولة أن يأكل الشعب «الجاتوه» بدلا من الخبز، لكننى سوف أسرد بالحقائق والأرقام قصة نجاح عظيم حققه الفنان الفنزويلى. فى عام 1975 أسس «أبريو» حركته التى سماها «الموسيقى الاجتماعية» واستطاع المحافظة عليها وإبقاءها حية وفاعلة حتى الآن، وتنطلق هذه الحركة من إيمان عميق لدى هذا الموسيقار العبقرى بأن تنظيم فرق «الأوركسترا» يجسِّد المجتمع المثالى، إذ تسود فيه قيم إيجابية لا غنى عنها مثل التعاون والعمل الجماعى والانضباط التام والشعور بالمسؤولية تجاه الآخر.. وعليه فإنه كلما كان انخراط الأطفال فى الأوركسترا فى سن أصغر، كان بمقدورهم أن يستقوا ويتشربوا تلك المُثُل والقيم المجتمعية بشكل أكبر. واعتمدت الحركة لتنفيذ أهدافها على برنامج يُدعَى «إل سيستيما» جرى تنفيذه فى المناطق والأحياء الأكثر فقرًا، ولم يكن من ضمن أهداف الحركة تخريج أجيال من الموسيقيين المحترفين، بل ركزت بشكل مطلق على استخدام تأثير الموسيقى الفعال فى تهذيب النفس وكبح الميل نحو العنف، وتحفيز المشاعر الإيجابية الراقية لدى هؤلاء الصغار المعدمين. ولكن لماذا اختار خوزيه أبريو الموسيقى الكلاسيكية بالذات؟! يقول مجيبا: الراديو والتليفزيون يذيعان الموسيقى الدارجة فى المجتمع بلا انقطاع، وقد أضحت بسبب الإلحاح شيئا يشبه «الموسيقى التصويرية» المصاحبة لحياة البؤس والعنف والمهانة التى يعيشها هؤلاء الفقراء الصغار.. ويمضى أبريو قائلا: إن ما يحتاج إليه الأطفال هو موسيقى مختلفة تفتح لهم نافذة على عالم آخر بما يجعل الطفل الغلبان يدرك أن هناك واقعا مغايرا للواقع الأليم الذى يكابده. بدأت الحكومة الفنزويلية فى تمويل أوركسترا «إل سيستيما» عام 1977 بعد فوزه الساحق فى المسابقة العالمية فى «أبردين» فى اسكتلندا، وقد حرص السيد أبريو على إلحاق مشروعه بوزارة التضامن الاجتماعى، مؤكدا بذلك طابعه الأصلى كمشروع للخدمة والتطوير المجتمعى، ونافيا عنه كذلك صفة «أفكار الصفوة»، إضافة إلى إبعاده عن وزارة الثقافة، تلك التى تكون أولى ضحايا خفض الميزانيات وقت الشدائد. وقد انطلق أبريو فى تنفيذ مشروعه بتعليم وتدريب 11 طفلا فى أحد الجراجات المهجورة فى العاصمة كاراكاس، وقد وعد هؤلاء الأطفال فى يومهم الأول بأنهم سوف يُنشِئون «أوركسترا على مستوى عالمى».. وهو وعد تَحقَّق فعلا، فالآن وبعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاما، فإن فنزويلا الفقيرة صارت تمتلك ما يزيد على 200 أوركسترا للشباب، و60 أوركسترا للأطفال، و30 أخرى للمحترفين، منها اثنتان على الأقل تتمتعان بمستوى عالمى وتتخاطفهما أشهر دور الأوبرا وقاعات الكونسير فى العالم. وأختم بأن أوركسترا «سيمون بوليفار السيمفونى» الذى أغلب أعضائه شباب من خلفيات مجتمعية شديدة البؤس (آثاره ظاهرة بوضوح على وجوه هؤلاء العازفين) أضحى العام الماضى أكبر أوركسترا فى العالم من حيث عدد التعاقدات التى أُبرمت معه لتقديم حفلات خارجية!