لم تكن تجربة عصام إسماعيل فهمى كناشر، تجربة عادية مثل غيرها من التجارب والمحاولات التى دفعت رجال أعمال لاستثمار أموالهم فى إصدار صحف، واستثمار ما تدره هذه الصحف من عوائد ملموسة وغير ملموسة، لكن فهمى كان الأقرب إلى حد كبير إلى ما يمكن أن نسميه الناشر المحترف. عندما تقارن فهمى بغيره من رجال الأعمال الذين امتلكوا ويمتلكون صحفًا، يظهر لك الفارق الشاسع، فالرجل لم يكن رجل أعمال قرر استثمار بعض من فوائض أرباحه فى إصدار صحف، وإنما كان ناشرًا لا يعرف له وظيفة غير النشر، لم يكن رجل أعمال يملك نشاطات شتى، ليس النشر إلا أقل ميزانية فيها، وإنما ناشر يعيش من صحفه كما يفتح الباب للمواهب لتتفتح فى حدود ما تسمح إمكاناته، وما تهيئ له موارده الذاتية من طاقة على الاستمرار. الرجل الذى لم يكن لديه مصالح أخرى غير الصحافة، ربما كان ذلك جزءًا رئيسيًّا من تميزه وقدرته على المغامرة فى إصدار الصحف الجريئة والزاعقة والصادمة على كل المستويات، محتواها وشكلها وأسماء كتابها، فى وقت كان فيه نظام مبارك يمسك بخيوط الإعلام جميعها، فإذا هو يتقدم لملء فراغ كبير ويؤسس فيه تجربة للصحافة الخاصة، فتحت بابًا لم يغلق من بعده، وإن أغلقت إصداراته فى ما بعد. رهانه على شباب الصحفيين، وعلى رئيس تحرير شاب ومبدع إبراهيم عيسى لم يكن مجرد انحياز لجيل، بقدر ما كان دعمًا لرؤية جديدة فى التفكير الناقد الذى يكسر كل التابوهات وما تعتقده السلطة والجمهور مقدسات فى ذلك الوقت، فضلًا عن قدرته على التعاطى مع هذا الجيل الموهوب جدا، والذى أطلق العنان لموهبته ومواقفه وآرائه الصادمة، ليصنع صحافة مختلفة عما كان سائدًا، ويشكل ثقافة جيل قدم لهم أسماء كثيرة صارت ملء السمع والبصر. كان الرجل فى عز مواجهة صحفه لنظام مبارك ورموزه، وحتى بعد ظهور المزيد من الصحف الخاصة، يبدو قادرًا على المواجهة، لأنه بلا مسكة بالمعنى الدارج، فهو لا يملك مصالح متشعبة مع الدولة كغيره من رجال الأعمال الذين يمتلكون صحفًا بالشكل الذى كان يجعل الدولة قادرة فى أى لحظة على عقابه، بحرمانه من امتياز هنا، أو بإلغاء تعاقد معه هناك، أو اصطياده فى نشاطات أخرى غير الصحافة. كما أن اقتصار نشاطه على النشر فى الصحف أيضًا عزز استقلاله واستقلال إصداراته، بشكل لم يجعله مضطرًّا لتوجيه صحفه للتخديم على وزير من أجل عقد أو صفقة، أو الدفاع عن آخر بسبب حرج ارتباط مصالح نشاطات أخرى مع وزارته. هذه الحالة بكل ما كان يُروى عنها من فقر فى الموارد، لكنها يمكن أن نسميها بقدر من التبسيط حالة الناشر الشعبى، الذى ربط مصالحه بالناس وليس بالسلطة، وربط عوائده وأرباحه بنسب التوزيع والقراء، وليس بنسب الإعلانات التى كانت فى أغلب الأوقات ممنوعة على صحفه، بفعل تدخل الدولة لعقابه وخنقه. بأى حال من الأحوال تستحق تجربته كناشر محترف ومستقل ومتفرغ للنسر وغير مرتبط مع الدولة بتعقيدات من المصالح والتعاقدات إلى دراسة حقيقية، للوقوف على أحد العوامل الرئيسية التى تعزز استقلال الصحف من جانب، وعلى تطوير واحدة من أهم الوظائف الصحفية التى يؤدى غيابها إلى كثير من التخبط فى المؤسسات على مستوى اقتصاديات الصحف، وعلى مستوى تدخلات الملاك فى التحرير والمحتوى من جانب آخر. تجربة عصام فهمى يمكن أن تكون ركيزة لتطوير مهنة الناشر، والدفع بها إلى مستوى أكثر حداثة، ليس شرطًا أن يكون الناشر مالكًا لحصة فى الصحيفة، لكن الأهم أن يكون مفوَّضًا من الملاك، وفى الوقت نفسه يملك قدرات التعاطى مع الاقتصاديات الصحفية بأشكالها وأنواعها، وفى الوقت نفسه مراقبة جودة المحتوى، والفصل بين الملكية والتحرير عبر دور مرسوم بدقة يؤمِّن استثمارات المالك، ويعزز استقلال إدارة التحرير عن مصالح المالك المتشعبة. رحم الله عصام إسماعيل فهمى بقدر ما اجتهد، وغامر، ليشارك بدور ليس هينًا فى نمو صناعة الصحف، وفى تجديدها بطاقات إبداع مختلفة وأنماط محتوى مهدت الطريق أمام المزيد من الصحف لاختبار تجاربها.