لم يكن افتتاح فرع جديد للشركة بهذه المدينة الأوروبية أمرا هاما، فالشركة لها فروع نمطية فى معظم عواصم العالم، ومع هذا فقد أراد المدير الشرير أن يستثمر الحدث العادى من أجل مصلحته الشخصية، وفكر فى أن يستغل رئيس مجلس الإدارة الذى عُرف بالعدوانية والشراسة والذى يعتبره شخصيا مثله الأعلى فى الحياة وأن يدعوه لافتتاح الفرع الجديد. كان هذا الرجل من أغرب من عرفت من البشر.. لديه عن نفسه فكرة عجيبة مؤداها أنه يمتلك عبقرية ليست عند سواه. وكان يعدّ حياكة المؤمرات الرخيصة لإيقاع الناس فى المهالك من تجليات هذه العبقرية، ويرى أن وضع قشرة موز فى الظلام لأحد الخصوم بجوار باب السلم هى فكرة لا تعنّ إلا للأفذاذ من ذوى القدرات العقلية الراقية! ولعل ساديته هذه هى التى جعلته يعشق رئيس مجلس الإدارة الذى كان يفوقه فى السادية ويمتلك منها مخزونا يكفى لبناء الجدار الفولاذى ويفيض منه قطعة تصلح لعمل سروال داخلى لسيادته! وعلى الرغم من كونه ينحدر من أسرة ميسورة ونال تعليما جيدا وحصل على الدكتوراه من لندن ثم تزوج بأستاذة جامعية جميلة ومثقفة فإن المشكلة كانت فى نفسه الصغيرة وفى الإحساس الدفين بعدم الجدارة الذى كان يلازمه طوال الوقت. كان يعلم أن المرؤوسين والزملاء يطلقون عليه اسم عبقرينو ويتندرون عليه من وراء ظهره، لذلك كانت نقمته عليهم عظيمة.. وتَفتّق ذهنه عن حل عملى لضرب الخصوم حتى الرؤساء منهم، وهو أن يتقرب من رئيس مجلس الإدارة ويعمل من خده مداسا لجزمة سعادته، ومن ثم يضمن أن يضعه فى جيبه ثم يضرب به الجميع! وكان يرى فى هذه الخطة عبقرية فريدة يتفوق بها على سائر الناس الذين كانوا لخيبتهم يُضطرّون إلى منافقة عشرات البشر والانحناء لكل من هبّ ودبّ، أما هو فلا يعمل خادما إلا عند سيد واحد فقط! كان المتبقى له على الخروج إلى المعاش بضعة أشهر، ولم يكن يصدق أنه سيغادر الدولة الأوروبية ويترك المنصب الذى يمنحه المال والنفوذ ويمكّنه من إذلال المرؤوسين. جلس يفكر ويعتصر الجمجمة من أجل حل هذه المشكلة، ثم هبط عليه الوحى بأن يقوم بعمل احتفال كبير بمناسبة افتتاح الفرع الجديد يدعو إليه الرجل الكبير الذى فى يده قرار مد الخدمة له بعد المعاش. وقرر صاحبنا أن يشغّل كل ماكينات التزلف واللزوجة بأقصى عزم! قام بالاتصال برئيس مجلس الإدارة سليط اللسان صاحب السطوة والهيلمان وأخبره بأن المدينة الأوروبية تنتظر بشوق قدومه لافتتاح الفرع الجديد للشركة. سأله الرئيس: ومن أين يعرفنى الناس عندكم فى غرب أوروبا؟ أجاب وهو يضغط على الحروف: أنت شخصية دولية تعرفها الدنيا كلها، وقد اقترح الناس هنا أن يكون الافتتاح يوم 26 القادم، وهو يوم مولدكم. قال الرئيس فى دهشة: أوَ يعرفون عيد ميلادى أيضا؟ أجاب: نعم يا سيدى يعرفونه، ويستعدون لتشريفكم للاحتفال به معكم.. ولا تنسَ أن تحضر الهانم معك كما يقضى البروتوكول. فى الأيام التالية قام بعمل استعدادات مشابهة لتلك التى تم عملها عشية قدوم الإمبراطورة أوجينى عند افتتاح قناة السويس، فقام بحجز قاعة ملكية فاخرة باهظة الثمن، وكلف أمهر الطهاة بإعداد مائدة تكفى ألفا من المدعوين، وقام بتوجيه الدعوات بشكل عشوائى إلى كل من صادفه، وأحضر فرقة موسيقية تقوم بالعزف فى أثناء العشاء. ولم ينسَ أن يستأجر كومبارسًا يقومون بالتصفيق فى أثناء إلقاء المسؤول كلمتَه التى أعدها له! ولم يكتفِ بهذا وإنما قام بتنظيم برنامج حافل باهظ التكلفة للرجل طيلة أيام زيارته. ورغم علمه أن المسؤول لا يشرب فقد حرص على تزويد الغرفة بزجاجة شمبانيا وطبق كافيار كل ليلة لإضفاء لمسة «كلاس» على إقامة الرجل وزوجته. وطبعا قام بالحصول على توقيع سيادته على كل هذه النفقات على حساب الشركة! كل هذا رأيته عاديا ولم يُثِر دهشتى، وقد سبق لى رؤية نفاق وفساد أفظع من هذا بكثير. لكن الذى أصابنى بالغم وجعلنى أحزن حقا هو أنه أتى بزوجته بالطائرة، وهى سيدة رقيقة وأستاذة جامعية مرموقة، وجعلها تقوم بدور الوصيفة لزوجة المسؤول التى كانت حيزبونا مقيتة شديدة الجهل والغطرسة. وكنت ألمح عذاب أستاذة الجامعة وهى تمارس دورا لا يليق بها وأشعر بالإشفاق عليها من زوج رخيص أنانى يدفعها لملاطفة امرأة لا تستحق سوى الازدراء. ليس هذا فقط لكن عبقريته جعلته يحضر ابنته الصغرى الجميلة أيضا لتمارس دلالها الطفولى التلقائى وتضفى على الجو مسحة براءة وحميمية.. كل شىء مدروس (على رأى عادل إمام). انتهت الزيارة على خير، وقد حققت الغرض منها فعاد المسؤول الكبير وهو فى غاية السرور، وكان أول قرار وقّعه هو قرار مد الخدمة لصاحبنا العبقرى. لكن سبحان الله! بعد أقل من شهر صدر قرار أعلى بإقالة رئيس مجلس الإدارة وخروجه إلى المعاش، وفى ذيله خرج الأخ عبقرينو.. فيالسخرية القدر! يُنشر للمرة الثانية..