بعد مئة متر من ركوبنا التاكسى ركن السائق على اليمين وأصر على أن ينزلنا -صديقتى وأنا- من السيارة. لم نفعل أبدا ما يستحق هذا العقاب كل ما فعلناه أننا طلبنا منه أن يفتح التكييف بمنتهى اللطف، أنا قلت له: ممكن ربنا يسترك تفتح لنا التكييف وندفع أكتر. فقال: التكييف عطلان. فقالت صديقتى :ياه ده إحنا مستنيين تاكسى أبيض علشان التكييف. قال: خلاص انزلوا. قلت له: ليه كده إحنا قلنا لك حاجة، اطلع يا عم خلاص. قال: لأ انزلوا.. مش عاجبكم انزلوا. قلت له: يا سيدى امشى عاجبنا خلاص. لا يمكن.. ركب السائق رأسه، وأصر على طردنا. انفعلت صديقتى وشعرت بالإهانة وحاولت أن توبخه، فمنعتها. وهى بطبيعتها شخصية هادئة ورقيقة فكان من السهل أن أسكتها رغم عدم فهمها لسر صبرى على جنون السائق. لم أنزل من السيارة وسألته بهدوء: إيه اللى مزعلك للدرجة دى، إحنا ماعملناش أى حاجة تزعلك، إحنا بنكلمك بكل أدب فى حاجة تانية معصباك، إنت رجعت فى كلامك ومش عايز تروح المعادى؟ قال: أيوه يا ستى أنا متعصب والعربية كانت هتتخبط دلوقتى وهيه جت فيكى. قلت له: خلاص حصل خير ياللا اطلع بقى على المعادى. قال: لأ مش طالع انزلوا بقى اتفضلوا. دفعتنى صديقتى دفعا خارج السيارة وقذفت له بخمسة جنيهات على الكرسى المجاور له وهى تقول بصوت مرتفع: المفروض ماتاخدش أى فلوس. فقال بصوت أكثر ارتفاعا: مش عايز منك حاجة. قلت له بعد أن نزلت: حاول تهدى نفسك ادخل صلى الضهر فى الجامع ده. قال: لسه خارج من الصلاة. وتركنا وانصرف ووقف بعد خطوتين فقط وأخذ زبونا آخر. طبعا أنا لست ملاكا بل إننى كنت أمارس الشر بهذا الهدوء، لأن دافعى لم يكن تهدئة الرجل كما تصورت صديقتى ولا كنت أرغب فى الوصول إلى المعادى بأى طريقة ولو على حساب كرامتى واحترامى.. أبدا، كان دافعى الوحيد أن أعرف وأفهم ثم أكتب سر هذا التصرف الغريب الذى لم يحدث لى على مدى كل تاكسيات عمرى الطويل. وللأسف لم أفهم.. لم يعطنى الرجل مفتاحا واحدا للفهم وحكاية أن السيارة كادت تتعرض لحادثة لم تقنعنى لأن السيارة كانت سليمة تماما، قضينا وقتا فى التخمينات.. عصبية صيام؟ رجع فى كلامه وقرر أن مشوار المعادى لا يلائمه؟ استمع فى حديثنا إلى شىء لم يعجبه؟ شىء ما فى شكلنا جعله يتشاءم؟ الله أعلم. المؤكد فقط أننا مررنا بموقف غريب لا يتكرر. بعد أيام اتصل بى صديق طبيب يشكو إلىّ من طريقة معاملة عدوانية مارسها أخو مريض من أقاربى معه. كان أهل المريض يحتاجون إلى أن يكتب لهم الطبيب صديقى تقريرا لعرضه على أطباء فى الخارج ربما يجدون لحالته المزمنة والصعبة علاجا جديدا. ووعدهم الطبيب أكثر من مرة بأن يكتب لهم التقرير ولم يتمكن من الوفاء بوعده فانفعل الأخ وعنّف الدكتور بكلمات غير لائقة، فشكى لى الدكتور جحود الأخ وقال لى (الناس كلها بقت كده بعد الثورة .. خلاص ماحدش بيحترم حد). أحكى لكم هاتين القصتين لأسألكم: لماذا اعتقد الطبيب أن سلوك الأخ مرتبط بالثورة رغم أن هذه القصة تتكرر بحذافيرها بل ربما بنفس كلماتها يوميا منذ قديم الأزل بين الأطباء والمرضى؟ ولماذا لم يخطر على بالى إطلاقا أن تصرف سائق التاكسى مرتبط بالثورة رغم أنه سلوك جديد تماما والعادى المتعارف عليه أن يظل الراكب والسائق يتشاجران طوال الطريق وقد يتشابكان بالأيدى لكن يكمل السائق المشوار؟ فكروا فى الإجابة ونكمل غدا.