أصبح -منذ زمن بعيد- الشاعر والرسّام والمسرحى، فيديريكو جارسيا لوركا، رمزا كبيرا لمقاومة الطغيان والاستبداد فى العالم. ورغم أن حركته كانت تخص وطنه وبلاده إسبانيا، فإن إبداعه العظيم، وتأثيره المتعاظم على شعراء وكتّاب العالم، ومساهماته الكبرى فى تطور الشعر والمسرح على السواء، ثم مصرعه الدامى الذى صار وصمة عار للسلطات الاستبدادية فى إسبانيا والعالم كله، كل هذه كانت عناصر لكى يصبح اسم لوركا قرينا أساسيا لفعل المقاومة بشكل مطلق. وفى 29 نوفمبر عام 1962 أقامت صحيفة «المساء» احتفالا بسيطا بالشاعر، ولكنه كان مفعما بكل معانى الود والتعاطف والإجلال، وكان هذا بمناسبة عرض مسرحية «بيت برنارد ألبا» على خشبة المسرح القومى، وبهذه المناسبة نشرت الصحيفة مقالا تعريفيا ونقديا للناقد الشاب صبرى حافظ، وكان عنوان المقال «لوركا شاعر الشعب والحرية»، وكذلك ترجمت ثريا حمدى مقالا للصحفية الفرنسية مارى جاتار، وكان عنوان المقال «إسبانيا تتغنى بشاعرها الخالد لوركا»، وفى قلب الصفحة قصيدة رائعة للشاعر الشاب عبد الرحمن الأبنودى، وعنوان القصيدة «غنوة الموت فى غرناطة»، وقد حذف الأبنودى «فى غرناطة» عندما ضم القصيدة إلى ديوانه الأول «الأرض والعيال»، ربما ليعطى دلالة أشمل وأعم من اختصار المعنى فى غرناطة فقط. يقول الأبنودى: (مليون حداد.. الدنيا هنا مافيهاش غير المليون حداد بيدقوا قيود لاجل الأولاد أولاد لسه ما اتولدوا.. لسه ما شافوا النور.. يا نهار.. يا نهار.. مليون نجار.. الدنيا مافيهاش غير المليون نجار بيدقوا التوابيت اللى من غير صلبان الدنيا هنا مافيهاش غير الندابات.. ماليين الدنيا صريخ.. وصوات الدنيا هنا مافيهاش غير الأحزان.. والموت ناسج فى صدور الجدعان.. الأكفان...). أما صبرى حافظ، فقد تناول المسيرة الثورية للشاعر العظيم، وقدم مقاله بفقرة من شعره يقول فيها لوركا: (ألا انحنوا أيها الأصدقاء عميقا فى الصخر والأحلام قبر شاعر تحت الينابيع ينتحب الماء يبكى ويصرخ إلى الأبد لقد وقعت جريمة فى غرناطة). ولا يتوقف حافظ عند قصائد لوركا، ولكنه يتطرق إلى مسرحه كذلك، ويجرى تحليلا نقديا لبعض نصوصه، مشيرا إلى التزام لوركا الثورى بقضيته العادلة، هذا الالتزام الذى لا يدفعه لكتابة شعر مباشر وسطحى كما يكتبه بعض الشعراء السذج، الذين لا تتجاوز كتاباتهم حالات الانفعال التى تهاجمهم، ولا يفوّت صبرى حافظ هنا المناسبة لكى يجرى جولة سريعة فى تأثير لوركا على الشباب الإسبان، ودفعهم للثورة على الاستبداد والظلم الواضحين فى المجتمع. ولم يكن هذا الاحتفال الجميل بشاعر كبير جديدا على مصر، أو على العالم العربى، بل كان قد صدر كتاب من قبل عنوانه «لوركا شاعر إسبانيا الشهيد» للدكتور والناقد اللبنانى على سعد، وكذلك نشرت مجلة «الآداب» مسرحية «يرما» للوركا، وقد ترجمها الناقد والمترجم الكبير وحيد النقاش، ولا أعرف هل هذه أول ترجمة لأحد نصوص لوركا المسرحية، أم أن هناك ترجمات أخرى سبقت هذه الترجمة. وكانت هذه المسرحية قد عرضت لأول مرة فى إسبانيا عام 1960، وهذا بعد رحيل لوركا بأكثر من عقدين، إذ كانت السلطة التى طاردته وقتلته عام 1936 لم تفرج عن أعماله إلا بعد حين، وها هو وحيد النقاش ينقلها إلى اللغة العربية عام 1957، ويقوم بإخراجها الفنان كرم مطاوع، ويتم افتتاح عرضها على مسرح الجمهورية فى 16 يوليو 1964، ويختار نخبة من أجمل شباب المسرح ليقوموا بأداء تمثيلى رائع، منهم سهير البابلى ومحسنة توفيق وعبد الله غيث ومحمد الدفراوى ونجمة إبراهيم وغيرهم. ويقدم وحيد النقاش النص المترجم بكلمة مطولة، ليشرح فيها هذا اللون الجديد فى العالم على المسرح، وهو يرجع جدّة هذا المسرح إلى استخدام لوركا لعناصر مدهشة، وفعّالة، هذه العناصر التى لم تكن موجودة فى المسرح العالمى من قبل، ثم ينّوه فى هذه المقدمة بأنه لا يذكر اسم لوركا إلا وتثار معه قضيتان من أخطر قضايا الفن المعاصر، القضية الأولى تتعلق بعلاقة الشعر بالمسرح، والقضية الثانية هى قضية الفن الشعبى (الفلكلور)، ويستطرد النقّاش ليعالج هاتين القضيتين عند لوركا. الغريب أن هذه المقدمة لم تنشر عندما أعيد نشرها فى كتاب مستقل، وصدرت عن وزارة الثقافة عام 1967، ودخل على الخط الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، الذى كتب مقدمة طويلة مستوحاة من مقدمة ج. ل. جيلى للترجمة الإنجليزية، ووضع الناشر اسم صلاح عبد الصبور مع اسم وحيد النقاش على الغلاف، بل جاء اسم عبد الصبور سابقا لاسم النقّاش، وتبدو هذه القضية التى أثيرها وكأنها قضية شكلية، ولكن الأمر ليس كذلك، والأمر لا يتعلق بأى إدانة أو تخطىء، ولكن وحيد النقاش كان يستحق أن ينشر اسمه منفردا على الغلاف، بعيدا عن إقحام اسم صلاح عبد الصبور الذى ترجم مجموعة أشعار نشرت فى الكتاب، وكذلك من حق وحيد النقاش الذى قام بالترجمة أولا أن تنشر مقدمته الجميلة للنص. بالطبع حدثت بعد ذلك ترجمات كثيرة للوركا، وكان أشهرها ترجمة عبد الرحمن بدوى لمسرحية «عرس الدم»، ولم تأتِ شهرة هذه الترجمة لجمالها، ولكن لشهرة مترجمها بدوى، الذى كان ينشر كتبا فلسفية وترجمات بمعدلات زمنية مذهلة، وكان اسمه منتشرا بشكل لافت للنظر. ومن أجمل ما ترجم ديوان «شاعر فى نيويورك»، وقام بترجمته المترجم الكبير ماهر البطوطى، هذا عدا ترجمات عربية كثيرة قام بها خليفة محمد التليسى والشاعر سعدى يوسف وعدنان بغجاتى، وقد انتقد الشاعر العراقى عبد القادر الجنابى كل هذه الترجمات، عندما ترجم قصيدة «بكائية من أجل إغناثيو سانشيز ميخياس» للوركا، بمساعدة زوجته الإسبانية الأصل -كما يقول الجنابى نفسه فى مقدمة الترجمة- وقد نشرت هذه القصيدة فى مجلة «إبداع» فى أكتوبر 1999. ولا تفوتنى هذه المناسبة لكى أشير ضمن السيل الذى كتب عربيا عن لوركا، إلى النص النثرى الرائع الذى كتبه محمود درويش تحت عنوان «خمسون عاما بلا لوركا»، ونشر فى العدد الصادر من مجلة «اليوم السابع» الصادر فى 23 يونيو 1986، بمناسبة مرور خمسين عاما على اغتياله. وخير ختام لهذا المقال كلمات درويش التى يقول فيها: «كان لوركا ينشد، كان لوركا يقول إن الشعر يحتاج إلى ناقل، يحتاج إلى كائن حى، كان هذا الناقل منشدا أو مغنيا، وكان لوركا يمتحن حاسة الذوق، ويمتحن القصيدة ذاتها بالإلقاء، كان يبحث عن العلاقة المباشرة بين القلب والصوت، فالشعر ليس فنا بصريا، لا بد من أذن، لا بد من جرس».