بالصدفة وجدت نفسى حارسًا للمرمى مع عمال طنطا، والغريب أن كل أصدقائى وزملائى كانوا فى غاية السعادة بهذه الخطوة إلا أنا، ولا أعرف السبب، فقد كان حلم عمرى، ولكن يبدو أن عدم قناعتى بأنى أتدرَّب مع فريق له مكان معلوم وإدارة معروفة أو خوف من أن يعود جمال حارس المرمى المصاب مرة أخرى إلى صفوف الفريق بعد شفائه من الحادثة التى تعرَّض لها، أو لأن تجربتى مع نادى طنطا وطردى مرتين من التدريب كانت وما زالت عالقة بذهنى، لذلك قررت أن أستجمع كل شجاعتى وأطلب من المدرب إعفائى من مركز حراسة المرمى الواسع والكبير جدًّا فى التدريب القادم، لذلك لم أحضر فانلة بكم طويل كما طلبوا منِّى فى التدريب وصممت على المشاركة كمهاجم، ولم أبُح بسرِّى لصديقى العزيز السيد الديدى، وبالمناسبة اسمه الديدى لا الريدى، ورغم طول المشوار حتى وصلنا إلى استاد طنطا ورغم كل محاولاته تشجيعى، مذكرًا إياى بحلمى القديم فى حراسة مرمى الأهلى، فإننى لم أفكِّر سوى فى الاعتذار لعم مصطفى العطار عن عدم الاستمرار فى حراسة مرمى الفريق.. وبالفعل وصلنا إلى الاستاد وبدأنا فى الاستعداد للتدريب، وبالمناسبة لم تكن لدينا غرفة ملابس للتغيير، فكلنا نبدِّل ونغيِّر ملابسنا فى أرض الملعب. نحن لا نملك هذه الرفاهية، ولكن حدثت مفاجأة غريبة جدًّا فقد وجدت مدربًا يرتدى بدلة تدريب رائعة وآخر شياكة كما يقولون، وطلب منِّى الحاج عبد المنعم الشرقاوى أن أجلس معه قليلًا قبل التدريب، فقلت له: عايز أطلب منك طلب، فقال لى: طيب، ولكن تعالَ نقعد مع الكابتن محمد الدمرداش، ولما سألته: مَن يكون الدمرداش؟ قال لى: إنه حارس سابق لنادى طنطا وهو صديق عزيز له وطلب منه أن نحضر لمشاهدة التدريب، ولبّيت طلبه وجلست مع الرجل فوجدته فاهمًا بشدة ويتكلَّم عن ثابت البطل وإكرامى ولقائه معهما عندما كان حارسًا لنادى طنطا، وأنه نادم أشد الندم على تركه حراسة المرمى، ولكنه كان مضطرًّا نظرًا لظروف عمله، وحكى لى روايات كثيرة عن حراسة المرمى وكيف بدأ مشواره التدريبى الناجح من وجهة نظره حتى وصل إلى أن يكون الحارس الثانى لنادى طنطا، ثم فجأة جاء عم مصطفى العطار المدرب وصاحب الكرة، وطلب أن يتحدَّث إلى الفريق بأكمله، واستمعنا إليه، إذ لم يكن حديثه سوى أن الحارس جمال لن يستطيع أن يكمل المشوار بسبب الحادثة التى تعرَّض لها، حيث إنه أُصيب بقطع كبير فى الرأس، وبما أنه يعمل سبَّاكًا فإنه لن يستطيع إكمال مشواره الكروى، وطلب منى أن أحل محله بصفة دائمة لأنه لا يوجد سواى، وأيضًا حارس تخطّى الأربعين اسمه حسين، وهو الآخر مشغول بعمله، لذلك سيعتمد الفريق على شخصى فى المباريات القادمة.. ثم زفّ إلينا النبأ السعيد بأن الكابتن محمد الدمرداش سيتولَّى تدريبى حتى أقف على قدمى وتزول الرهبة تمامًا عنّى، والغريب أننى نسيت كل ما كنت أفكِّر فيه طوال الأسبوع، ووجدتنى طائرًا من الفرحة وأنا أقول له: تحت أمرك يا كابتن، ولا أعرف كيف وجدت فانلة بكم طويل، وبدأت أول تدريب مع الكابتن محمد الدمرداش الذى كان نقلة نوعية كبيرة فى حياتى، فقد كان لديه من الذكاء ما يكفى لكى يعيد إلىَّ الثقة فى نفسى، فرفض تمامًا أن أقف فى المرمى وقرر أن يبدأ تدريباته معى على أحد جانبى الملعب، ولعلِّى هنا أُذيع بعضًا من الأسرار، لأول مرة فى حياتى، فالمعروف أننى أشول القدم، لذلك لم أكن أجيد الرمى إلا على الزاوية الشمال، أما ناحية اليمين فقد كنت أجرى لألحق بالكرة، وحاول معى الدمرداش مرات عديدة، ولكنه لم ينجح، فما كان منه إلا أن غادر التدريب لمدة تجاوزت 15 دقيقة ثم عاد ومعه رباط خيط قوى وشريط لصق وربط إيدى الشمال ولزمها فى جنبى، وأحضر عصا كبيرة جدًّا وأخذ يدرّبنى نحو ثلاث ساعات متصلة على الرمى ناحية اليمين فقط، وعندما كنت أجرى خلف الكرة كان يضربنى بعنف على إيدى المربوطة، واستمرت الحال مع الكابتن الدمرداش نحو 3 تدريبات على نفس الوضع، تم فجأة فكَّنى تمامًا وطلب منى الوقوف فى المرمى الكبير، فكانت المفاجأة أننى أجيد الارتماء فى اليمين أفضل من الشمال، وأن المرمى أصبح عاديًّا تمامًا لى، ولم أصدق وذهبت إليه أحتضنه بشدة، ولكن فجأة صرخ فى وجهى طالبًا منى أن أفكِّر فى يوم الجمعة القادم ولم أكن أعرف ماذا يقصد، ولكنى امتثلت لأوامره دون أن أدرى ماذا يطلب بالتحديد، وبالفعل ذهبنا إلى التدريب يوم الجمعة، فكانت أولى المفاجآت، فنحن سنلعب مباراة ودية فى قرية الجعفرية التى تبعد نحو 10 كيلومترات بالتحديد عن طنطا، والطريف أننا سافرنا إلى الجعفرية على ظهر عربة كارو، لأن الأُجرة كانت قرش صاغ، وبالتالى لن تكون مكلّفة لإدارة الفريق ويومها كان معنا الحارس الكبير حسين، وتوقَّع الجميع أن يبدأ هو المباراة، إلا أن المفاجأة أن الكابتن الدمرداش صمم على إشراكى أساسيًّا، وللعلم كان فريق الجعفرية يضم عددًا من لاعبى نادى طنطا، أذكر منهم الراحل حسام عوض الذى أصبح بعد ذلك أمينًا لشباب الجمهورية ورئيسًا للجنة الشباب والرياضة لمجلس الشعب، ومحمد الجناينى الذى كان من أهم لاعبى نادى زيوت طنطا، قد شاهدته وهو يلعب المباراة الودية أمام طنطا ونزل الكابتن الدمرداش لتسخينى قبل اللقاء وأعطانى التعليمات، وطلب منى أن أظهر للجميع مهاراتى، لأنه راهن قبل المباراة أننى سأحافظ على شبكتى نظيفة وهو الأمر المستحيل نظرًا لقوة الفريق المنافس، ولكن جاءت المفاجأة فقد فزنا 2/صفر، ولعبت مباراة العمر، والغريب أن مكافأتى كانت فى عودتى فى الأوتوبيس بدلًا من العربة الكارو، وأيضًا فى ساندوتش جبنة كان أول مكافأة فى حياتى ويومها شعرت أن الدنيا بدأت تبتسم لى، فالجماهير كانت كثيرة جدًّا وسألوا عن اسمى وتغنّوا بى فى أثناء اللقاء، بل وحملونى على الأعناق غير مصدقين أن هذا الحارس الصغير بمثل هذه الموهبة، على حد قولهم. ويومها لم أعد إلى المنزل بل ذهبت مباشرة إلى منزل عمّى الراحل عبد الشفيع شوبير، وكان رياضيًّا قديمًا وأهلاويًّا متعصبًا جدًّا، وحكيت له ما حدث بالتفصيل فطلب منى أن أشد حيلى وأن أفكِّر فى الانتقال إلى نادٍ أكبر وأفضل يكون له دورى ومسابقة حتى أستطيع أن أكمل المشوار، ووضعت نصيحته فى قلبى وصممت أن أفعل، وبدأت فى التدريب المنفرد مع الكابتن الدمرداش إلى أن انقطعت أخباره فجأة مثلما ظهر فجأة وكأنه كان فانوس سليمان الذى بعته الله لى ليعلّمنى مبادئ وأصول حراسة المرمى.. وبدأت المباريات تتوالى فى كل القرى المجاورة لطنطا وذاع صيتى بشدة، فكنا نشترط أن نذهب إلى المباريات بالأوتوبيس على حساب الفريق المنافس، ثم زادت طلباتنا فأصبح اللعب بالغداء أو العشاء، وذلك على حسب موعد وصولنا إلى ملعب المباراة، والحقيقة أننا لم نخسر تقريبًا أى مباراة فى كل المباريات التى لبعبناها، وأصبحت نجم الفريق الأول، لذلك كانت مفاجأة سارة جدًّا لى عندما قرر الحاج عبد المنعم الشرقاوى إعفائى من رسوم الاشتراك (العشرة صاغ) بل إنه صرف لى مكافأة عشرة صاغ من جيبه، لأننى على حد قوله عملت شعبية كبيرة للعمال، وكم كانت سعادتى كبيرة ولا توصف بهذا التقدير وهذا الحب الجارف من كل أعضاء الفريق، خصوصًا صديقى العزيز السيد الديدى، ثم كانت المفاجأة الثانية حيث عقد الفريق اجتماعًا على غرار فيلم شارع الحب وطلبوا أن يكون هناك اهتمام خاص بى وطلب منى الحاج عبد المنعم الشرقاوى ومصطفى العطار، أن أترك الفريق وأن أنتقل إلى نادى طنطا أو زيوت طنطا، وأنهما سيبذلان المستحيل للوقوف بجوارى وتطوَّع أحدهما بالذهاب إلى الكابتن الغمرى مدرب طنطا، الذى رفضنى من قبل وطلب منه حضور التدريب لمشاهدتى، وبالفعل لبَّى الرجل الدعوة وجاء لمشاهدة الحارس المعجزة كما كانوا يقولون له وأخبرونى بوجود الرجل فى المران، وأنه جاء خصيصًا لمشاهدتى والغريب أننى أدّيت أسوأ مران فى حياتى ولم يكمل الرجل المران وخرج غاضبًا، وقال لهم بالحرف: إنتوا ضحكتوا علىَّ وده حارس ماعندوش فكرة، والغريب أننى لم أهتم كثيرًا برأيه، رغم خيبة الأمل التى أُصيب بها كل أعضاء الفريق والمدربين، فإننى لم أهتز على الإطلاق ومرّ الأمر وكأن شيئًا لم يحدث على الإطلاق وفضّلت الاستمرار فى نادٍ بلا نادٍ على الإنضمام إلى نادى طنطا رغم أنه كان حلم عمرى.. ولكن يبدو أن التمرد الذى بداخلى انتصر على رغبتى فى اللعب تحت قيادة هذا المدرب واستمر الأمر لعدة شهور وأنا أجوب كل قرى طنطا للعب المباريات وأؤدى بمستوى متميز للغاية، حتى جاء يوم شاهدنى فيه زميل تصادف أنه كان من فريق الجعفرية وكان والده أستاذًا لى اسمه عبد الستار، أما الزميل فكان نبيل عبد الستار فوجدته يطلب منى الذهاب للاختبار فى نادى زيوت طنطا ورحَّبت بشدة، فأنا كما قلت كنت أذهب بصحبة والدى -رحمه الله- لمشاهدة المباراة السنوية التى تجمع الأهلى بزيوت طنطا، ولكن لم أكن أتخيل أنه نادٍ فقط كنت أعتقد أنه إحدى الشركات المنتشرة فى مدينة طنطا، لذلك كانت سعادتى لا توصف بدعوة نبيل عبد الستار لى للذهاب لاختبارات زيوت طنطا باستاد طنطا واشتريت فانلة جديدة من محل ملابس رياضى شهير بطنطا اسمه «محمد وعبده»، وظللت أحلم بيوم الاختبار الأول وبالفعل ذهبنا يوم الثلاثاء فى شهر يونيو عام 76 للاختبار بنادى زيوت طنطا، وزادت سعادتى عندما وجدت الاستقبال الحار لزميلى نبيل عبد الستار، حيث تم اختياره للتدريب مع الفريق الأول مباشرة، لأنه كان طويلًا ومميزًا بضربات الرأس، بالإضافة إلى تسديداته القوية جدًّا، ولكن يبدو أنهم انشغلوا بنبيل وتركونى حتى انتهى التدريب والاختبارات دون أن يدعونى أحد للنزول وتكرر الأمر أكثر من مرة، فذهبت إلى المدرب وكان يسمى جورج بانوب، وطلبت منه أن يختبرنى فوعدنى فى المرة القادمة واستمررت فى الذهاب للاختبار فى زيوت طنطا أكثر من 10 مرات، وكانوا يختبرون كل مَن فى الملعب ما عدا أنا، فأصبت بصدمة عنيفة وقررت عدم الذهاب مرة أخرى، لأننى تأكدت أن المدرب جورج بانوب لا يريد اختبارى، وأنه يفعل ذلك حتى أزهق وأروَّح، وبالفعل قررت الانسحاب، ولكن، ويا سبحان الله، فقد قابلت زميلى نبيل عبد الستار بالصدفة فى شارع البحر بطنطا وسألنى عملت إيه؟ فحيكت له ما حدث معى فطيَّب خاطرى وصمَّم على الذهاب مرة أخرى. وأقول سرًّا جديدًا، إننى أقسمت أنها ستكون المرة الأخيرة ولو لم يختبرنى أحد سأتفرغ لمباريات الكرة الشراب والدراسة ولن أفكِّر فى اللعب لنادٍ آخر وذهبت وأنا فى غاية الخوف والقلق، ولكن ولحسن الحظ لم أجد جورج بانوب ووجدت مدربًا طيبًا للغاية اسمه مصطفى عطا، عليه رحمة الله، وقدّمنى له نبيل عبد الستار طالبًا اختبارى وأخذ يشيد بى وبمستواى، وكانت المفاجأة أن الكابتن عطا يعرفنى جيدًا من مباريات الكرة الشراب، وطلب منى النزول إلى الملعب وحراسة المرمى فى تقسيمة الاختبارات، ولم أصدّق نفسى فها أنا فى الملعب وها هى الفرصة أمامى من جديد، وصممت أن أثبت للجميع أننى أستحق الفرصة، والحقيقة أننى أديت تمرينًا هائلًا لدرجة أنه لم يدخل مرماى أى هدف، ونلت رضا الجميع إلى أن حدثت المفاجأة.. فقد حضر الكابتن جورج بانوب وعندما وجدنى فى الملعب طلب إخراجى على الفور، إلا أن الكابتن مصطفى عطا رفض، وقال له بالحرف الواحد: الأول اتفرج عليه وبعدين اطرده لو مش عاجبك، وزادنى الأمر إصرارًا وتركيزًا وتألّقت أكثر فطلب منى جورج البقاء عقب التدريب لاختبارى بنفسه، وفعلًا اختبرنى أمام الجميع وتألَّقت بشكل مخيف، فنادانى أمام الجميع وسألنى: اسمك إيه؟ فقلت له: أحمد شوبير، عندك كام سنة؟ قلت: 16 سنة، فإذا به يرفعنى إلى أعلى صارخًا بأعلى صوته: يا أهل طنطا اشهدوا جون منتخب مصر الجاى اسمه أحمد شوبير وطالع من طنطا وماحدش حيقدر عليه. وطلب منى إحضار مستخرج رسمى من شهادة الميلاد وأربع صور، وهى كلمة السر لبداية اللعب فى أى فريق، ولم أصدّق نفسى وأخذت المشوار من استاد طنطا إلى البيت جريًا فى دقائق معدودة، وأنا أصرخ: يا أهل طنطا، اشهدوا حارس مرمى مصر جاى من طنطا واسمه أحمد شوبير.