ما الجديد الذى يمكن أن تأتى به الانتخابات البرلمانية المقبلة فى مصر؟ وما مقدار ما يمكن أن تعكسه من قيم الوطنية المصرية الجامعة التى انتصر لها خروج المصريين الكبير فى 30 يونيو 2013؟ فى الواقع، فإن مختلف عناصر المشهد السياسى ما قبل الانتخابات المتوقعة فى مطلع عام 2015، تنبئ بأن لا شىء تقريبًا سيتغير. سيرتد المصريون على الأرجح من دائرة الوطنية الجامعة التى قادت حراك «30 يونيو»، إلى همومهم الشخصية شديدة المحلية وشديدة الانغلاق على دوائرهم الانتخابية الضيقة، بل وعلى ذواتهم الضيقة، متغافلين عن منطق الأمة الجامعة الموحدة عند انتخاب مَن يمثلهم فى التشريع والرقابة. يعود هذا الانغلاق على المصالح المحلية أو الفئوية كمحدد للسلوك التصويتى للناخبين فى جزء كبير منه إلى عدد من العوامل، لعل أهمها غياب الرؤى السياسية الوطنية الجامعة لدى كثير من الأحزاب والقوى السياسية فى الدولة، والضعف المتزايد الذى بات يميز قدرة هذه الدولة على الاستجابة بفاعلية للمطالب الواردة من الجماهير بمختلف فئاتها، وتنامى النزعة العصبية بمعناها الواسع حتى بين الجماعات المهنية لا فقط روابط الدم التقليدية كأداة للتغلب المجتمعى. بعبارة أخرى، فقد أفضت هذه العوامل جميعًا إلى تغييب منطق «نائب الأمة» الذى ينوب عن الشعب فى مجمله فى التعبير عن إرادته السياسية ومصلحته العامة، لا فقط مصالح قطاعية أو محلية أو عصبية محدودة. عزز من الأثر السلبى لهذه العوامل اعتماد النظام الانتخابى على الدوائر الانتخابية الصغيرة نسبيا. سمحت تلك الدوائر الصغيرة نسبيا بتصاعد دور العصبيات التى بات بمقدور أغناها مالًا أو أكثرها عددًا ضبط اتجاهات التصويت فى تلك الدوائر وضمان انتخاب مَن تدعمه، خصوصًا فى الصعيد والدلتا والمحافظات الصحراوية. أما فى المناطق الحضرية، فقد منحت هذه الدوائر الصغيرة المال السياسى قدرة أكبر على التأثير. وفى ظل ما كشفت عنه خبرة خمسة عقود من التعددية الحزبية، بما فى ذلك سنوات ما بعد 25 يناير 2011، من افتقار القوى السياسية جميعها تقريبًا إلى برامج سياسية عملية ومتمايزة، فقد أتاحت هذه الدوائر الصغيرة كذلك تكريس نمط نائب الخدمات الذى بات يعتمد على تلبية مطالب أفراد دائرته ومصالحهم الشخصية أساسًا لبناء شرعيته وتعزيزها، بدلًا من النهوض بمهمته الأصيلة فى تقديم تصورات تعالج جوهر المشكلات وعواملها الهيكلية على مستوى الوطن والأمة. ودعمت السلطة التنفيذية التى تسهم بالدور الرئيسى عادة فى تحديد هذه الدوائر ونطاقاتها هذا النمط فى الانتخاب وفى الممارسة النيابية، حيث أتاحت لها بناء علاقة تساومية مع نواب الخدمات تقوم على تلبية طلباتهم الخدمية، مقابل تخليهم -أى هؤلاء النواب- عن استقلاليتهم وحيدتهم النيابيتين. وأدى ذلك إلى اختلال جوهرى فى العلاقة بين السلطتين لمصلحة طغيان السلطة التنفيذية. لكن فى المقابل، فقد أدى هذا النمط إلى تعزيز السلطة الاجتماعية للعصبيات، وإفساد جهاز الدولة الذى بات يعمل على تحقيق مصالح النواب ومصالح مواليهم بعيدًا عن معايير الحق أو العدالة، بل وغُيّب فى كثير من الأحوال تطبيق القانون عن كثير من هؤلاء النواب بقدر موالاتهم للسلطة التنفيذية. ولم يكن لهذه الممارسات التى غيبت العدالة وإنفاذ القانون من أثر إلا إضعاف الدولة وازدياد هشاشتها وعدم الثقة فى بنيانها المؤسسى والقانونى لدى قطاعات واسعة من الجماهير، التى باتت تنتظر موسم الانتخابات والمساومات لتحقيق مصالحها، دون أن تعنى بالعملية السياسية نفسها أو تعيرها اهتمامًا كبيرًا. وخلال السنوات الأخيرة، ازداد خطر هذه العلاقات المشوهة بين السلطة التنفيذية والعصبيات المؤثرة انتخابيا مع تزايد انخراط أفراد من هذه البنى العصبية، خصوصًا فى الصعيد وسيناء، فى أنشطة التجارة غير المشروعة والجريمة المنظمة والإرهاب، والعابرة للحدود التى انتشرت عبر المنطقة بأسرها فى ظل ما باتت تعانيه من هشاشة أمنية متزايدة. ولم يعد خافيًا ما باتت تطرحه هذه الأنشطة من مخاطر تمس أمن الدولة، بل وتهدد سلامتها الإقليمية، خصوصًا إذا ما أتيح لمثل هؤلاء الأفراد الاستفادة من علاقات الفساد والإفساد التقليدية المتبادلة فى ما بين عصبياتهم والسلطة التنفيذية وجهاز الدولة البيروقراطى. فى ضوء هذه المعطيات جميعًا، يبدو أن مراجعة منطق الدوائر الانتخابية الصغيرة بات ملحا. ربما كان فى اعتماد الدوائر الكبيرة نسبيا، ما يحيد وزن العصبيات فى العملية الانتخابية، ويجبر الأحزاب الكرتونية الصغيرة على التوحد وبناء تكتلات حزبية ذات مقدرة حقيقية على التأثير، وعلى تطوير برامج سياسية حقيقية تكون موضوعًا لتنافسها بدلًا من الاعتماد على «تجارة الخدمات». وتثار فى هذا الصدد تحذيرات من مخاطر أن تسمح الدوائر الكبيرة بسيطرة التكتلات ذات القدرة المالية الكبيرة، ويبرز الخشية من استغلال عناصر جماعة الإخوان المسلمين، خصوصًا لمثل هذه الدوائر فى محاولة التغلغل إلى البرلمان المقبل، لكن اعتماد الدوائر الصغيرة بدورها لا يمثل أى ضمانة تمنع المرجح من محاولة استغلال هذه العناصر أى قدرات مالية تتاح لهم فى عمليات شراء الأصوات التى احترفوها لعقود طويلة. تتمثل المواجهة الحقيقية لمثل هذه المخاطر فى تطوير كيانات حزبية قوية وبرامج سياسية ذات جدوى فعلية يمكنها جذب قطاعات الناخبين. والأهم هو تعزيز صلاحيات المحليات وقدراتها بما يتيح للجماهير أن تشارك بنفسها وبشكل أكثر فاعلية فى إدارة شؤونها والبحث عن أكفأ السبل لتلبية احتياجاتها الحياتية والخدمية اليومية بعيدًا عن طرق أبواب البرلمان أو استجداء نوابه. ولينهض هذا الأخير بالفعل بمهامه الفعلية فى التشريع والرقابة والمساءلة من دون ارتهان للسلطة التنفيذية، ومن دون إفسادها. ويبقى تساؤل أخير، أيهما الأجدى إجراؤه أولًا، الانتخابات البرلمانية أم انتخابات المحليات وإصلاحها؟